آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
أسعد أبو خليل
عن الكاتب :
(مواليد 16 آذار/مارس 1960) هو بروفيسور لبناني-أمريكي في العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا، ستانيسلاوس ويحاضر في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. كتب أسعد أبو خليل: القاموس التاريخي للبنان (1998)، حرب جديدة على الإرهاب مع بن لادن، والإسلام وأمريكا (2002)، المعركة من أجل السعودية (2004). يدير مدونة تحت عنوان، "وكالة أنباء العربي الغاضب".

مسلسل بندر ـــ بوش: مقولات أبا إيبان في تبرير الخيانة

 

أسعد أبو خليل

لم يكن ظهور بندر بن سلطان على شاشة ابن عمّه، محمد بن سلمان، عاديّاً أو طبيعيّاً. تزامنَ الظهورُ مع ضخٍّ هائل في محطات النفط، لفكرة وممارسة التطبيع مع إسرائيل والرضوخ للسيادة الإسرائيليّة على المنطقة العربية. والذي تابعَ بندر بن سلطان، عبر السنوات، لاحظ أنّه تغيّرَ كثيراً ــــــــ منذ صعود محمد بن سلمان ــــــــ عمّا كان عليه من عنجهيّة وصلف وتكبّر. بندر بن سلطان تعرَّض بطريقة ما، لما تعرَّض له الوليد من طلال من إذلال ومهانة على يد محمد بن سلمان، لكن من دون حجز في فندق أو في جناح منزل، مثل تعرّض له سعد الحريري. أجبرَ محمد بن سلمان، بندر وأخاه خالد، على التنازل عن كميّة من ثروتهما لصالح الحاكم الجديد، الذي لم يكن يلقى التحيّة من أي منهما في زمن بات غابراً. وفساد بندر وأخيه خالد سجّل أرقاماً قياسيّة على المستوى العالمي (من قال إنّ النظام السعودي لا يمكن له أن يسجِّلَ أرقاماً عالميّة؟) حتى في الصور، يبدو بندر مختلِفاً وذليلاً ومبالِغاً في إظهار وطأة السن عليه. هو يخشى أن يتعرّض لما تعرّضَ له أولاد عمومته في سجون أو قصور اعتقال محمد بن سلمان. بندر بن سلطان رهينةً لدى محمد بن سلمان، كما أنّ كلّ أفراد العائلة المالكة باتوا رهائن عند ولي العهد. أصبح بندر رهن إشارة ولي العهد، يستعين به عندما يرى في ذلك مصلحة له، وبندر يبدو متحمِّساً لخدمة ولي العهد والثناء عليه. هذه قصة المسلسل باختصار.
خدمَ بندر سنوات طويلة في واشنطن، ولم يترك وراءه سمعة عطرة. كان معروفاً عنه أنّه قريب جداً من عائلة بوش (ومن هنا تسمية بندر بوش) وأنه يقدّم خدمات متنوّعة للإدارات الأميركيّة، ومن خارج الأقنية الدبلوماسية. لم يتحمّل تركي الفيصل العمل في سفارة المملكة في واشنطن طويلاً، لأنّه كان يكتشف أنّ بندر كان يقوم برحلات سرّية ومهمّات لم يكن هو يدري بها. وبين السفراء العرب، كان بندر معروفاً بتكبّره وصلفه، وأنّه نادراً ما كان يحضر اجتماع السفراء العرب الدوري، وكان يكتفي بإرسال مندوب عنه. كان أقرب إلى مجالس المنظمات الصهيونيّة من مجلس السفراء العرب. بندر كان عرّاب العلاقة المباشرة بين اللوبي الإسرائيلي والقيادة السعوديّة، بعد حرب الخليج في عام ١٩٩١، كما رتّب أول زيارة لوفد صهيوني إلى المملكة.
إطلالة بندر الأخيرة كانت واضحة في مراميها: خطوة أخرى للنظام السعودي في تقويض القضيّة الفلسطينية، وفي تقديم وجهة النظر الصهيونية لها. وهذا الضخّ ضد القضية ليس بجديد، فقد عمل النظام السعودي على الإعداد له، منذ ١١ أيلول/ سبتمبر على الأقل. وكانت جريدة أولاد الأمير سلمان، «الشرق الأوسط»، السبّاقة في الترويج للمقولات الصهيونية والتطبيع. كذلك، كانت سبّاقة في استضافة عتاة الصهاينة في صفحات الرأي، من العرب والغربيّين. عادل درويش، مثلاً، يحمل اسماً عربيّاً، لكنّه صهيوني بريطاني يميني معروف، وكان من مؤسّسي منظمّة تعنى بمحاربة وجهة النظر الفلسطينيّة في الصحافة البريطانية. واستقت تلك الصحافة الخليجية أسلوب فؤاد عجمي (اللبناني الصهيوني الذي كان يخطب في حفل جمع التبرّعات للصهاينة) في السخرية من الفلسطينيّين ومن قضيّتهم والتعامل معها على أنها خاسرة حكماً، وأنّ ما على العرب إلّا الاعتراف بواقع الاحتلال والقبول بما يُعرض عليهم من مذلّة.
الصحافة السعوديّة (وهذا يشمل حسابات الذباب الإلكتروني لأنّها ليست إلّا أداة في يد النظام، ما يجعل من التفريق بين الشعب في المملكة وبين النظام ضرورة ماسّة احتراماً لضحايا النظام في السجون وخارجها) كانت سبّاقة في التمهيد لمرحلة التطبيع الخليجي الجاري، وهو لم يكن ممكناً من دون رعاية من النظام. والإدارة الأميركية باتت تعترف بجهود النظام السعودي في تعميم التطبيع العربي. كما أنّ حسابات النظام على مواقع التواصل الاجتماعي، باتت متمرّسة في اجترار المقولات الصهيونيّة عن القضيّة الفلسطينيّة، والتي تكرِّر جهل الخطاب اليمني الانعزالي اللبناني: عن أنّ الشعب الفلسطيني باعَ أرضه، وأنّه هو المسؤول عن إشعال حروب في المنطقة، وأنّه لا يعرف كيف يدير أموره. ولم يكن التطبيع الإماراتي ممكناً من دون هذا التحضير من قِبل نظام محمد بن سلمان.
إطلالة بندر كانت للدفاع عن مسار التطبيع بكامله، وهو ابتدأ ــــــ في مجال تسويغ ظهوره ــــــ باختلاق قصّة نقد القيادة الفلسطينية للقيادات الخليجية، وكانت هذه الكذبة الأولى من أكاذيب بندر. أوّلاً، إنّ القيادات الفلسطينية (من ياسر عرفات إلى خلفه محمود عبّاس) تجنّبت عبر السنوات توجيه أي نقد للأنظمة الخليجيّة. حتى عرفات، بعدما تعرّضَ لحصار خانق من الأنظمة الخليجية، بعد احتلال الكويت، تمنّع عن توجيه النقد للنظام السعودي، وكان يوجِّه إعلامه للامتناع عن نقد آل سعود. لم يقبل عرفات بالردّ على كلّ الإهانات التي تلقّاها من إعلام آل سعود. صدرت ردودٌ من قِبل عصابة أوسلو ضد قرار التطبيع الإماراتي، لكنّ عبّاس أصدر أوامره بعدم توجيه أيّ نقد لحاكم الإمارات (طبعاً هناك مفارقة في أن يعترض محمود عبّاس وعصابته على التطبيع الخليجي، لأنّ التنسيق الأمني الذي تختصّ به سلطة أوسلو هو أعلى مراحل التطبيع). وصائب عريقات تعرّض لإهانات من بندر في مسلسله، لكنّه دأب على مخاطبته، بِذُل، بلقب «سموّ الأمير». أي إنّ بندر اختلق قصّة هجوم فلسطيني رسمي على قيادات أنظمة الخليج، كي يسوِِّغ هجومه ضد القضيّة الفلسطينيّة (كما أنّ النظامين السعودي والإماراتي اختلقا قصّة لتفجير الصراع مع النظام القطري).
وبدأ بندر بسرد خيانة «منظمة التحرير» لأنظمة الخليج، بسبب موقف عرفات من احتلال الكويت. هذا ليس مستغرباً، إنّ عائلة آل سعود تتّسم بالحقد والضغينة. هذه عائلة لم تغفر بعد لعبد الناصر هجاءه للأنظمة الرجعية، قبل عام 1967 (توقّف عبد الناصر الضعيف عن هجاء الأنظمة الرجعيّة بعد عام 1967، لأنّه كان يحتاج إلى تمويل بناء الجيش المصري) بالرغم من مرور خمسين عاماً على وفاة عبد الناصر، لا تزال تقرأ في صحافة آل سعود ـــــــ خصوصاً من الأبواق اللبنانية الأكثر طاعة وانحناءً من غيرها ـــــــ حقداً وتصفية حسابات مع عبد الناصر. فليس مستغرباً، إذن، أن يكون النظام السعودي لا يزال حاقداً على عرفات، بسبب موقفه من حرب الخليج.

كان بندر معروفاً بتكبّره وصلفه وأنّه نادراً ما كان يحضر اجتماع السفراء العرب الدوري وكان يكتفي بإرسال مندوب عنه
ويبدأ بندر بالتاريخ، في الإشارة إلى موقف الملك عبد العزيز، كما يمرّ على القيادات الفلسطينية المتعاقبة. ولا يأتي بندر بجديد ــــــــ باستثناء كمٍّ من الأكاذيب ـــــــ إذ إنّه يعيد تسويق المقولات الصهيونيّة ضد القضية الفلسطينية. وفحوى مسلسل بندر المملّ هي مقولة أبا إيبان الشهيرة ـــــــ شهيرة لأن الإعلام الغربي يحبّ الترويج لها ـــــــ ومفادها أنّ الشعب الفلسطيني «لا يفوّت فرصة لتفويت الفرصة». كرّرها بندر بالعربيّة من دون الإشارة إلى مصدرها. ومرَّ على ما أسماه التحالف بين الحاج أمين وهتلر. طبعاً، إنّ التوصيف مغالِط، والحاج أمين كان في بداياته حليفاً للاستعمار البريطاني، وعندما طُرد من فلسطين فتّش عن بدلاء، ولم يستقبله إلا النظام النازي العنصري. لا مجال لتبرير سقطة الحاج أمين وجهله بطبيعة النظام النازي. لكن أن يستخدم الأمير السعودي ذلك ضد الشعب الفلسطيني، هو تكرار أيضاً للدعاية الصهيونيّة. ثمّ ماذا عن العلاقة الوطيدة بين آل سعود والنظام النازي. التقى الحاج أمين مرّة واحدة (أو مرّتيْن) مع هتلر، لكنّ الملك عبد العزيز أرسل مبعوثه، خالد القرقني للقاء هتلر في تموز/ يوليو 1939 في معقل هتلر الجبلي (وهناك فيديو للقاء). وكان الملك يريد تعاوناً عسكرياً مع النظام، كما حاول الحصول على سلاح وإنشاء مصنع للخرطوش (راجع «العالم العربي في وثائق سريّة ألمانيّة، 1937 ـــــ 1941»). كان يمكن أن يستمرّ التعاون، لولا أنّ الملك خاف من إغضاب راعيه البريطاني. وقد روى لي السفير الأميركي السابق في الرياض، تشاز فريمان، أنّه رأى خنجراً ممهوراً بالصليب المعقوف، كان الملك عبد الله يضعه في درج مكتبه، وهو مهدى لوالده من هتلر. النظام السعودي، الذي كان يبيع النفط (عبر السوق الفوريّة) لنظام الأقليّة البيضاء في جنوب أفريقيا والذي تحالف مع أعتى الأنظمة الرجعيّة في العالم، لا يحقّ له وعظ حركة التحرير الفلسطيني عن صوابية التحالفات. هذا نظام موّل أكثر الحركات رجعيّة حول العالم، فقط للمساهمة في الحرب الأميركيّة ضد الشيوعيّة، ولأنّه شاطَر رأي أميركا في كراهية الاشتراكية والشيوعية.
أمّا عن موقف الملك من صعود الخطر الصهيوني، فإنّ رواية بندر أقرب إلى سيرة أبو زيد الهلالي. لقد كتبت المؤرِّخة النزيهة، مضاوي الرشيد، عن موقف الملك عبد العزيز من حرب فلسطين، وما سبقها (راجع فصل، «السعوديّة وحرب فلسطين في عام 1948»، في كتاب «الحرب من أجل فلسطين»، تحرير يوجين روغن وآفي شلايم). وموقف عبد العزيز من القضية الفلسطينية، لم يكن له أيّ علاقة بتعاطفٍ مع الشعب الفلسطيني. هذا رجلٌ كان له فهم ضيّق للعلاقات الدولية، وحتى لمفهوم العروبة (وكان مساعدوه المصريون والسوريّون يكتبون خطَبه ومراسلاته). هذا رجل ردّ بغضب على أمين الريحاني، عندما سأله عن الوحدة العربيّة، إذ قال: «ومن هم العرب، حِنّا العرب، قال ذلك وضرب السجادة بقضيب يحمله من الخيزران» («ملوك العرب»، ج. 2، ص. 43). وموقفه من القضيّة الفلسطينيّة كانت تتحكّم به هذه العناصر: 1) عداؤه الشديد للهاشميّين ومنافسته لهم في الزعامة. 2) الولاء المطلق للمُستعمِر البريطاني وتولّيه مصالحه على ما عداها في السياسة الخارجيّة. 3) الخوف من الرأي العام العربي ورأي الفقهاء وقد استخدم هذا العنصر في مراسلاته مع البريطانيّين لتسويغ إطلاق مواقف لفظيّة في تأييد الفلسطينيّين. وخلافاً لمزاعم بندر الكاذبة، فإنّ الملك المؤسِّس، كما يسمّونه، صاحب دعوات الجهاد ضد «المشركين»، لم ينصر القضيّة الفلسطينيّة بشيء. لنُراجع القرائن.
تتراوح نظرة عبد العزيز المعاصرة إزاء القضيّة الفلسطينيّة بين نقيضَيْن: يروّج أنصار الممانعة في الإعلام والمواقع لوثيقة تقول إنّه باع فلسطين. وهذه الوثيقة مزوَّرة، وهل فلسطين ملك لآل سعود كي يبيعوها؟ وهناك في الجانب الآخر بندر وأبواق دعاية آل سعود، الذين يزعمون أنّ عبد العزيز ناصَرَ الشعب الفلسطيني طيلة حياته. لكنّ الحقيقة تختلف عن ذلك. هناك ما ذكرته المؤرِّخة اليزابيت مونرو في تأريخها لسيرة جون فيلبي (مستشار الملك) والذي قال فيه سفير بريطاني سابق في السعوديّة، إنه منسجِم في تناقضاته: يؤيّد شعب فلسطين، لكن يؤيّد أيضاً هجرة اليهود إلى فلسطين. مونرو ذكرت ما ذكرته المراجع، من أنّ فيلبي جالَ في بريطانيا، في أوائل الأربعينيّات، عارِضاً مبادرة لمنح فلسطين لليهود مقابل مال لعبد العزيز. يقول توماس ريكس («هل وافق السعوديّون على خلق إسرائيل»، «فورين بوليسي»، 12 أيلول/ سبتمبر 2014) إنّه عثر في يوميّات الدبلوماسي البريطاني، أوليفر هارفي، في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1941 أنّ «حاييم وايزمان التقى بجون فيلبي، رجل ابن سعود (في الغرب يعرفون عبد العزيز باسم «ابن سعود») ومعتنق الإسلام، الذي قال إنّه يعتقد بأنّ ابن سعود يُمكن أن يقبل بمنح فلسطين لليهود، على أن يموِّل اليهود ذلك، وأن توافق حكومة صاحب الجلالة على ذلك». لا نعلم ما طبيعة هذا العرض، لكنّه بات جزءاً من تاريخ الملك عبد العزيز.
تطرَّق بندر بن سلطان إلى اللقاء الشهير بين فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز. ولدينا رواية أوليّة مباشرة من المترجِم الكولونيل وليم إدة (لبناني الأصل) الذي حضر الاجتماعات. صحيح أنّ عبد العزيز رفض مناشدة روزفلت للقبول بالمشروع الصهيوني، واقترح تدفيع الألمان ثمن ما حلَّ باليهود، ولكنّه لم يطلب أيّ شيء ملموس وسياسي من روزفلت، واكتفى بوعد روزفلت (طبعاً، أخلَّ به على عادة حكام الغرب في وعودهم للحكّام العرب الموالين لهم) بأنّه لن يُقدِم على سياسة ما نحو فلسطين، من دون استشارة اليهود والعرب معاً. سُرَّ عبد العزيز بهذا الوعد، الذي تكرَّر في رسالة أخيرة أرسلها روزفلت إليه في ما بعد (وظنّ أنّ الوعد يسري على الإدارات التي ستتبع، راجع بروس رايدل، «ملوك ورؤساء: السعودية والولايات المتحدة منذ روزفلت»، ص. 10). لكنّ المشكلة الكبيرة في اللقاء الشهير تتعلّق بأدوية عبد العزيز، إذ إنه بعدما غادر سفينة روزفلت لم يعثر على أدويته، وقدّم للحكومة الأميركية قائمة بـ240 دواءً يحتاجها بصورة يوميّة. راجعَ طبيب الجيش الأميركي القائمة، ووجد أنّ 210 من بين الـ240 دواءً يحتاجه الملك السعودي، لم تكن إلا عبارة عن منشّطات جنسيّة (مزيَّفة وغير متوفّرة). لكنّ الجيش الأميركي عاد وعثر على أدوية الملك وأرجعها له. (المرجع نفسه، بروس رايدل، ص. 10).
وفي زمن الانتداب البريطاني، كان عبد العزيز واضحاً في مراسلاته مع الحكومة البريطانية، أنّه لن يفعل ما يمكن أن يؤذي الحكم البريطاني في فلسطين وسياساته الصهيونيّة. هو قال: «إنّ الحكومة السعوديّة لن تقوم بعمل أي شيء يمكن أن يُحرج البريطانيّين قبل أن يتحلّلوا من مسؤولياتهم في فلسطين» (مضاوي الرشيد، المرجع أعلاه، ص.239). أي إنّ عبد العزيز لم يتمنّع فقط عن تأييد ثورة الشعب الفلسطيني، بل هو أعان عمليّة قمعها. لقد ضغط عبد العزيز مع غيره من طغاة العرب الموالين لبريطانيا، في حينه، على القيادة الفلسطينيّة كي توقف حركتها في ثورة 1936. والضغط هذا، أدّى إلى وقف الثورة وقمعها من قبل السلطات البريطانية، بعدما كان عبد العزيز وغيره قد وعدوا الشعب الفلسطيني بأنّ بريطانيا ستقدّم لهم حلاً. وقف المرحلة الأولى من انتفاضة 1936 ـــــ 1939 هو الذي أدّى إلى هزيمتها في مرحلتها الثانية، وتحوّلها إلى شبه حرب أهلية فلسطينية. لو أنّ الثورة لم ترضخ لضغوط عبد العزيز وأمثاله، كان يمكن لها أن تقضي على المشروع الصهيوني بالقوة، قبل أن يشتدّ الجسم العسكري للحركة الصهيونيّة، وقبل أن تزداد أعداد المهاجرين بصورة كبيرة بعد بضع سنوات. وفي حرب 1948، لم تكن مشاركة الجيش السعودي على ما وصفها بندر في مسلسله. جريدة «ذا تايمز» البريطانيّة كتبت عن المشاركة السعوديّة في عدد 1 تموز/ يوليو 1948، ووصفت المشاركة بأنّها «مذهلة إلى درجة أنّها لا تستحق التعليق»، وأنّ العدد (1200 جندي) يشمل مَن كان موجوداً في مصر. وقالت إنّ «الرجال (السعوديّين) كانوا كلّهم تقريباً غير مدرّبين وبلا جدوى في الحرب العصريّة. وبعضهم لم يكن حتى يعرف أن يطلق النار من بندقية» (مضاوي الرشيد، ص. 241). هذه هي بطولات المتطوّعين السعوديّين في حرب فلسطين، التي استشهد بها بندر بن سلطان.
لكن النظام السعودي آزر الشعب الفلسطيني بالخطب والكلام الكريه: إنّ النظام كان سبّاقاً في ضخّ الخطاب المعادي لإسرائيل من وجهة نظر معادية للسامية. إنّ أجهزة دعاية الصهيونية حول العالم كانت دائماً تستعين بخطاب المملكة السياسي والديني، لإعطاء صورة مشوَّهة عن الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي، وإحالته إلى استمرارٍ للخطاب النازي. وفي هذا، يمكن للصهيونيّة أن تشكر جهاز النظام السعودي الدعائي عبر العقود الطويلة. ولم يكن الملوك أنفسهم، من بعد العزيز إلى فيصل، في منأى عن بث كراهية اليهود كيهود. وكما تخصَّص النظام السعودي بضخّ كراهية ضد اليهود كيهود، عاد وعكس مساره بعد ١١ أيلول/ سبتمبر، واكتشفت المملكة فجأة الحكمة من ضخّ فكرة الحوار بين الأديان، والتي لا يريدها إلّا حواراً مع الصهيونية اليهودية والمسيحية فيما يُمعن في قمع المعتقدات الأخرى في المملكة.
كذّب بندر بن سلطان أحاديثه عن عروض مغرية تلقّاها الشعب الفلسطيني ورفضها. لم يُعرَض على الشعب الفلسطيني أي عرض مُغرٍ منذ النكبة، ولا عرض. بندر شوّهَ كلّ العروضات الغربية التي قال إنّها عُرضت على شعب فلسطين، تماماً كما في السردية الصهيونيّة التقليديّة. وهو اختلق عرضاً قال إنّ جيمي كارتر قدّمه لياسر عرفات، لكنّ الأخير رفضه. ليس من أثر لهذا العرض على الإطلاق، ولم يرد ذكره في كتاب ويليام كوانت («مسيرة السلام»)، وكوانت قد فصّل سياسة كارتر نحو الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي، وكان موظَّفاً في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. نفاق النظام السعودي في القضية الفلسطينيّة بات موثَّقاً، ويمكن مراجعة ما قاله جيمي كارتر عن ذلك في كلمته في جامعة ماريلاند، عندما اعترف بأنّ النظام السعودي كان يشجّعه في مسيرة كامب ديفيد في السرّ، فيما كان يدين المسيرة في العلن (راجع كلمة كارتر في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 1998، على موقع «كرسي أنور السادات للسلام والتنمية»). وكذب بندر، أيضاً، في حديثه عن كلمة الملك فهد في واشنطن في شباط/ فبراير 1985. وكان مفاد كلام بندر أنّ فهد انزعج من فحوى كلام ريغان، في كلمته المكتوبة، إلى درجة أنّه تحدّث في كلمته عن الرياضة فقط. لكنّي عدتُ إلى خطبة فهد في البيت الأبيض على موقع مكتبة ريغان الرئاسيّة، وفهد، بالرغم من حديثه عن الرياضة، فقد ذكرَ أيضاً ما كانت واشنطن تودّ سماعه: «نريد أن يعيش الجميع بسلام»، وكان هذا الكلام مطلوباً منه للاعتراف بحقّ دولة العدو في العيش بسلام.
لقد أصبح الشعب الفلسطيني وحيداً، ولم تعد الأنظمة العربية تزعم أنّها تؤيّد قضيّته العادلة. بندر استعار أقوالاً غربيّة معادية لشعب فلسطين، عندما قال إنّ القيادات الفلسطينيّة (على سوئها) كانت أسوأ محامٍ لأعدل قضيّة على عكس الصهاينة. لكن، هل نحن في محكمة عادلة؟ هل دول الغرب تشكّل محكمة نزيهة يمكن لأيٍّ كان عرض وجهة نظره والدفاع عنها؟ وهل دول الغرب لا تحكم إلّا بناء على الحجّة والمنطق؟ لو كان لـ«منظمة التحرير» أفضل القادة وأبلغ الخطباء، لم يكن هناك أيّ تغيير في وجهة سياسات الغرب المعادية لشعب فلسطين. لم يتبنَّ الغرب الصهيونيّة لأنّ الحجّة الصهيونيّة انتصرت على الحجّة الفلسطينيّة، بل لأنّ مصالح الغرب اقتضت ذلك، تماشياً مع تاريخٍ طويل من الاستعمار الغربي، في منطقتنا وفي غيرها. ولم تكن هناك ردودٌ على كلام بندر، حتى من فلسطينيّين (إلا في ما ندر). لم يعد الدفاع عن فلسطين يحفّز، كما في الماضي، وليس له من مردود مادي. والذين أثروا من «منظمّة التحرير» في لبنان صمتوا، بعدما كنزوا الذهب والفضّة وشيّدوا القصور، وأصبحوا أدوات في يد أنظمة التطبيع الخليجي. لكن: من هو بندر في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة؟ ثم هل له أن يحدِّثنا في مسلسل آخر عن تفجير بير العبد وعن صفقة اليمامة؟
جريدة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2020/10/17

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد