آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
سعد الله مزرعاني
عن الكاتب :
كاتب وسياسي لبناني

منظومة المحاصَصة خطر على الكيان!

 

سعد الله مزرعاني

رغم تعاظم خسائر ومخاطر الأزمة الشاملة الراهنة، يتصاعد الصراع بين مكوّنات منظومة المحاصَصة الطائفية على الحصص، أي على السلطة بمعناها الشامل والجزئي، كذلك على السياسات والخيارات المحلّية والخارجية. هل الأمر مجرّد انعدام شعور بالمسؤولية الوطنية من قِبل ممثّلي تلك المكوّنات؟ هل هو إمعان في الاستخفاف بردود فعل وباحتجاجات المتضرّرين، وقد باتوا الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. أم أنّ في الأمر، بالدرجة الأولى، شيئاً آخر؟ الاحتمال الأخير هذا، يتّصل، بنيوياً، بالنظام السياسي القائم الذي لم يعد قادراً على احتواء الصراعات وتوليد التسويات اللذين كانا يتمّان، بعد مخاضٍ دامٍ أحياناً، بالتكافل والتضامن ما بين القوى الداخلية من جهة، وبين مرجعياتها الخارجية من جهة ثانية.

يستطيع المرء، أيضاً، أن يطلق أحكاماً مبرَّرة، تؤكّدها معطيات تُضاف كلّ يوم، بأنّ الأزمة أبعد من أزمة نظام سياسي، إنّها أزمة كيان لم تتوفّر له، أصلاً، المقوّمات الضرورية للثبات والاستمرار. هذا أمرٌ يحتاج إلى نقاشٍ معمَّق ومسؤولٍ، لتبيان عوامل الخلل والسعي لمعالجتها تدارُكاً للأسوأ. الأسوأ هذا قد يتمثّل في الانقسام والتقسيم والتشظّي: بالصراع والعنف والحرب الأهلية والتدخّلات الخارجية التي توجّهها، خصوصاً في هذه المرحلة، مصالح كبرى تدير الأساسي فيها واشنطن وتل أبيب. بيد أنّ طبيعة النظام السياسي الذي فُرض منذ إنشاء الكيان قبل مئة عام، قد لازمه، عموماً، سوء إدارة وفئوية، ومن ثمّ تبلوُر وترسُّخ وتوسُّع منظومة محاصَصة تداعت إلى نشوء دويلات على حساب الدولة، واستشراء النهب والفساد والتبعية السياسية... فكانت أزمة الانهيار العميقة والخطيرة والشاملة الراهنة.
ينبغي التذكير بأنّ إدارة «لبنان الكبير» قد أُسندت، منذ البداية، لممثلي طائفة بعينها كانت هي أيضاً، تتمتّع بالسيطرة على المواقع المؤثّرة في الاقتصاد والتجارة والأمن والقوات المسلّحة والقضاء والتربية والعلاقات الخارجية... وصيغت، في خدمة ذلك، منظومة أيديولوجية متكاملة حول «فرادة» لبنان وفرادة «صيغته». لم تصمد هذه الصيغة أمام اختبارات سياسية واجتماعية في لبنان والمنطقة، فكانت حرب 1958، بسبب جموح فئوي وربط لبنان بمعاهدات استعمارية، وحرب 1975 ــــــ 1990 بسبب جملة تناقضات داخلية وخارجية، كان للشأن الاجتماعي بعد السياسي والقومي والإقليمي دور مهمّ فيها.
انتهت الحرب الأهلية بتسوية «الطائف» التي انطوت على شقَّين. الأول، وقف الحرب الأهلية وفرض وصاية خارجية (مباشرة سورية) على لبنان. الثاني، إصلاح بمرحلة أولى مؤقتة، يعالج مسألة التفرّد بالسلطة عبر شراكة «المناصفة»، ومرحلة ثانية طويلة، عبر التقاسم الطائفي من خلال انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، مع استحداث «مجلس شيوخ» طائفي محدود الصلاحيات (المواد 22 و24 و95 من الدستور).
كانت سلطة رئيس الجمهورية، قبل «الطائف»، هي محور ومصدر القرار مؤسّساتياً. في مرحلة «المناصفة»، تولّت الإدارة السورية ممارسة سلطة القرار واقعياً. بعد خروج السوريين، عام 2005، من دون استكمال إصلاحات «الطائف»، وبعد اقتصارها على «المناصفة»، بات الشلل والتعطيل هما السائدان. ليس هذا فقط، بل إنّه تمَّ المضي في التقاسم الطائفي والمذهبي إلى حدود غير مسبوقة، عبر بلورة تقاليد وأعراف من نوع «الميثاقية» و«الثلث المعطَّل» وحقّ النقض وحصرية المواقع وحتى بعض الوزارات...
بُتر «الطائف». طبعاً، تحكَّمت بتطبيق بنوده أو بعدم تطبيقها، مصالح داخلية وخارجية: لبنانية وسورية وعربية وحتى أجنبية. موازين القوى الراجحة كلياً تقريباً، لمصلحة الأطراف المعادية للإصلاح، عطّلت البنود الإصلاحية التي كُرِّست في الدستور. حالياً، يجرى السعي لإلغائها نهائياً، كما هو الأمر بالنسبة للفريق العوني، قبل الرئاسة، وخصوصاً بعدها (كلمة الرئيس عون الأخيرة مثال على ما ذكرنا لجهة إعفاء النظام من المسؤولية وحصرها بأشخاص منافسين، ما جعلها، للأسف، بعيدة عن سلامة التوصيف والاستنتاج). مارس دوراً سلبياً، بهذا الشأن، عجزُ قوى التغيير الوطني عن أن تكون لاعباً مؤثراً، من خلال عدم توحّدها وتشكلها في تيار وطني ذي إطار وبرنامج وخطة عمل وممارسة.
رغم الإفلاس والانهيار، لا يزال فريق المحاصَصة يراوح في السياسات التي قادت إليهما ذاتها... تؤدّي كلّ التعديلات المقترَحة من قبل أطرافه إلى الإمعان في الشيء ذاته، أي إلى تكريس الخلل والفئوية والشلل والتعطيل، ولو تبدلت التوازنات الراهنة بحيث تُستعاد «امتيازات» طائفية سابقة، أو أن تتكرّس أعراف وممارسات فئوية على حساب الدولة ودورها وسلطتها، لحساب الدويلات والجماعات والمراكز الطائفية الدينية والدنيوية. كذلك، لم تتمكّن قوى التغيير، بدورها، كما أشرنا، من الارتقاء إلى مستوى ما طرحته الأزمة المخيفة الراهنة من تحدّيات، رغم النسبة الهائلة للمتضرّرين، ورغم انخراط مئات الآلاف منهم في نشاطات احتجاجية في الشوارع، خلال عام كامل!
لا بدّ لممارسة أيّ سلطة من موقع قرار. هذه العملية شرطٌ لازم لاتخاذ القرارات وتطبيقها. هي ما يسمى بالسلطة القاهرة أو القادرة. ولا بدَّ طبعاً، لكي تستقيم الأمور، من أن يكون هذا الموقع دستورياً، وبالتالي منبثقاً عن عملية ديموقراطية انتخابية يتساوى فيها المواطنون، من دون تمييز أو قمع أو منع أو حصرية. كلّ ما عدا ذلك، وخصوصاً المراوحة في مستنقع النظام الحالي، سيشكّل مجازفة ليس فقط بوحدة لبنان، بل وبوجوده أساساً. إنّ من الممكن الافتراض أنّ الخلل الكياني قابل للمعالجة، إذا توفرت صحة التوجّهات وسلامة الأساليب. لم يتوفّر للبنان، خلال المئوية الأول من ولادته، هذان الشرطان، لذلك يصبح كلّ خطر على النظام خطراً على الكيان نفسه. لا ننسى أبداً أنّ بعض هذه العملية لم يكن بريئاً. الربط بين النظام السياسي والكيان، كان شعاراً رفعه أولئك المستفيدون من الصيغة الطائفية لممارسة السلطة وللتحكّم برقاب اللبنانيين، سواءً في مرحلة «الغلبة»، أو في مرحلة «المناصفة» الممدّد لها خلافاً للمقتضى الوطني والنص الدستوري.
كان، ولا يزال، ربطُ الكيان بالنظام السياسي، الفاشل والمدمِّر، هو الخطر الأول على الكيان، خصوصاً في ظروف انبعاث مشاريع الهيمنة المتجددة على المنطقة، بوسائل السيطرة المباشرة والتفتيت والانقسام... من قِبل المستعمرين والصهاينة، والتي تستهدف خصوصاً، في لبنان، نجاحات شعبه في حقل المقاومة والتنوّع والتعلّق بالحرية...

جريدة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2020/10/24

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد