آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
يوسف مكي البحرين
عن الكاتب :
كاتب بحريني

حتى بنوشيه يحب الصحافة والصحافيين


يوسف مكي

اعتاد الرئيس التشيلي السابق الجنرال أوغستينو بنوشيه 1915 - 2006 الذي قام بانقلاب عسكري بدعم من المخابرات المركزية الأميركية على الرئيس التشيلي الشرعي المنتخب سلفادور اللندي سنة 1973. أقول اعتاد على الاجتماع بين فترة وأخرى بالصحافيين ورجالات وسائل الإعلام في تشيلي، والحديث إليهم عن أهمية ودور الصحافيين في تنمية المجتمع وتصحيح الأخطاء، وأنه يكنُّ كل احترام وتقدير للصحافة والصحافيين، ويقوم بتوجيههم وفقاً لمنطقه العسكري.

إلا أن التاريخ القريب يخبرنا أن تشيلي خلال فترة حكمه العسكري الدموي الذي استمر نحو 17 عاماً من 1973 - 1990 دخلت في نفق مظلم وقام بنوشيه بحملة قمعية منقطعة النظير تعقب فيها المثقفين والفنانين والمفكرين والصحافيين والمعارضين وقام بقتلهم أو إيداعهم السجون والكثير منهم ذهب إلى المنافي.

أما أول إجراءاته القمعية فتمثلت في انقلابه على الرئيس الاشتراكي اللندي المنتخب بشكل ديمقراطي في سنة 1970 ثم قتله لهذا الرئيس، وتعليقه للدستور الديمقراطي، وملاحقته للصحافيين، وممارسة ما يعرف بإرهاب الدولة ضد مواطنيه ومعارضيه طوال فترة حكمه، حيث ذهب خلال فترة حكمه آلاف الضحايا، ومنهم بطبيعة الحال الصحافيون. هذا فضلاً عن استشراء الفساد السياسي والمالي، واتساع مساحة الاغتيالات السياسية للمعارضين، أو حتى أولئك الأشخاص الذين لا يسيرون في فلك الجنرال.

المهم . وعلى رغم عدائه الشديد للصحافيين والكتاب كان على علاقة مستمرة بهم، ويحرص على الاجتماع بهم والثناء على جهودهم ويصفهم بأنهم صمام الأمان في الحفاظ على تشيلي. وكان يحدث ذلك في الوقت الذي يزج فيه الجنرال نفسه بالآلاف من الصحافيين في السجون، أو يختفون وراء الأفق أو يموتون في ظروف غامضة.

وفي إحدى المرات وبينما كان الجنرال يوجه حديثه لمجموعة من الصحافيين الذين اعتاد اللقاء بهم، سأله أحد الصحافيين قائلاً: سيدي الرئيس أنت توجه نصائحك وتوجيهاتك إلى هذا الجمع من الصحافيين، إلا أن هذا الجمع لايمثل كل صحافيي تشيلي، فهناك خارج هذه القاعة أعداد كبيرة من أخوتنا الصحافيين، ومن في حكمهم وبعضهم لا يستطيع الدخول إلى هذه القاعة، فمنهم من هو وراء القضبان وبعضهم في أماكن مجهولة، وكأن الصحافيين الذين في هذه القاعة من لون واحد، أو أقله من النوع الذي لا يهش ولاينش، أو مؤيد لإجراءات الجنرال، أو صامت إيثاراً للسلامة والعافية.

فجاءت إجابة الجنرال فورية ومقتضبة: هؤلاء خونة وعملاء للسوفيات وكاسترو.

في هذه الأثناء قام صحافي آخر يوشوش في أذن زميله السائل قائلاً: إن الجنرال يحب الصحافيين ولا يحبهم في نفس الوقت. فرد عليه الصحافي الأول/ السائل: فسّر لي هذا القول المتناقض أو الطلسم. فقال الثاني إن الجنرال يحب الصحافيين الذين على شاكلته، أي أولئك الصحافيين المطبلين للزعيم، أو الصحافيين الذين من جنس الطغاة ويدافعون عن الطغيان والاستبداد والقمع أو على الأقل الصامتين، إنه يحبهم لأسبابه الخاصة. أمثال هؤلاء يموت فيهم الجنرال، ولكنه بالمقابل لا يحب أولئك الصحافيين المعارضين لنهجه، ويعترضون على سياساته وفساده، فهو يموت خوفاً وهلعاً منهم. فهؤلاء أعداؤه، ويحاول التخلص منهم بشكل أو بآخر كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وأنت يا صديقي ما عليك إلا أن تختار في أي من الصحافيين أن تكون. من أحباب الجنرال أم من معارضيه، أو الذين لا يحبهم.

أجاب الصحافي الأول: صدقت يا صاحبي، حتى الطغاة يحبون الصحافة والصحافيين ويشيدون بهم. هكذا يفعل الجنرال في هذا اللقاء. لكن الواقع يقول غير ذلك.

انتهى الاجتماع، ذهب الصحافي السائل إلى حال سبيله، وبينما هو كذلك اعترضته سيارة في الطريق، أنزله ثلاثة أشخاص ملثمون، أخذوه إلى ناحية مجهولة، وأوسعوه ضرباً وقالوا له هل تعرف أن الجنرال لا يحب الصحافيين الذين على شاكلتك؛ لكنه يحب الذين على شاكلته. وبعد بضعة أيام وجِد الصحافي المسكين مقتولاً، وقد قطعت أصابعه في إشارة رمزية إلى الكتابة التي لا تعجب الجنرال، وهي أن يُقتل صاحبها وتُقطع أصابعه.

وهذا لم يحدث فقط لأمثال هذا الصحافي، فقد حدث مثل ذلك للفنان والموسيقي التشيلي فكتور هارا حيث قتل وقطعت أصابعه التي كانت تعزف على الغيتار تلك الأغاني المعارضة لحكم بنوشيه.

لقد تخثرت الحياة في تشيلي بكل جوانبها في عهد بنوشيه؛ لكن بمجرد رحيله عن الحكم ابتداءً من انتخابات 1989 استعادت هذه البلاد عافيتها باستعادة الديمقراطية الفعلية، كما استعادت الصحافة الحقيقية والحرة عافيتها، وانخفض إلى حد كبير منسوب القمع واختفاء الصحافيين، وذهب الطاغية وبقت الكلمة الحرة والصحافي الحر وذهب المطبلون مع من ذهب.

يبقى الإشارة إلى أن الجنرال بنوشيه مجرد مثال يتكرر هنا وهناك وهنالك، تتعدد الأماكن وتختلف المسميات؛ لكن المضمون واحد في التعامل مع الكتاب والصحافيين. والنظام العربي من أكثر مناطق الأرض عداءً للصحافة والصحافيين. وكما أن للطغاة صحافيوهم، فإن للحرية صحافيوها. وبالنتيجة ذهب الجنرال بنوشيه وبقي الشعب التشيلي.

صحيفة الوسط البحرينية

أضيف بتاريخ :2017/05/21

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد