عندما تذبح الإنسانية على عتبات مقر السفارة الأمريكية في القدس المحتلة حدثت فلسطين قالت…
آسيا العتروس
لو كتب لفلسطين أن تتحدث عن النكبة التي أصابتها فما عساها تقول للعالم وهي تسجل كل يوم ضياع وتلاشي الحلم الذي كان يعتبر في سجلات العرب أنها القضية الأولى للشعوب العربية ؟
مع أن قرار الرئيس الأمريكي نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس لم يكن مفاجئا فقد جاء تنفيذ القرار ليؤكد أن استغاثة القدس لم تجد لها صدى في العالم وأن مختلف التحركات بين الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية لم تغير من قناعات الرئيس الأمريكي ولم تكبح جماحه واندفاعه في القفز على الشرعية الدولية والانتصار للجلاد في استخفاف واضح بحلفائه العرب ممن يملؤون خزائن مصانع السلاح الأمريكي بالذهب …
صحيح أن الرئيس الأمريكي الذي برهن حتى الآن أنه وفي لوعوده التي أطلقها ارضاء اللوبي المالي اليهودي المتنفذ في مؤسسات صنع القرار الأمريكي قد تراجع عن مواكبة الحدث وخول الأمر لابنته بريانكا وصهره غاريد كوشنير مهندس صفقة القرن فأن ما حدث جعل الرئيس الأمريكي يجسد دور رعاة البقر كأسوأ ما يكون عليه الأمر بالنسبة لرئيس أكبر قوة في العالم وأحد أعضاء مجلس الأمن الدولي وصناع الوثيقة المؤسسة للأمم المتحدة و لمفهوم العدالة الدولية التي تذبح على عتبات مقر السفارة الأمريكية الجديد …على أن هذا الدور الأرعن للرئيس الأمريكي والفصل الثاني من وعد بلفور الذي مر عليه قرن من الزمن لا يخفي بأي حال من الأحوال وجه لا يقل سوءا وهو وجه الحكام والقادة العرب الذين يشتركون في الغياب عن المشهد وفي عجزهم غير المسبوق …ولعله من المهم وفي انتظار الحصيلة النهائية لشهداء فلسطين المحتلة الذين ارتقوا بالأمس خلال مسيرة العودة المليونية برصاص الاحتلال الانتباه إلى مسائل لا تخفى على مراقب في تطور بالمشهد الفلسطيني, وأول الملاحظات أنه وفي غياب موقف عربي أو دولي ازاء المحرقة التي تسجل في حق أصحاب القضية وهي قضية مرتبطة بمظلمة تاريخية طالت أكثر مما ينبغي بقطع النظر عن جذور و انتماء الشعب الفلسطيني فأن الثابت وبرغم قتامة المشهد وما يمكن أن يؤول اليه أن استمرار الوجود الفلسطيني على الأرض سيظل عنصرا حاسما في التصدي لصفقة القرن حتى كتابة هذه الاسطر بلغ عدد الضحايا تسع و خمسون من الشهداء الفلسطينيين إلى جانب نحو ألفي مصاب وهي حصيلة ثقيلة يدفع ثمنها أبناء الشعب الفلسطيني في حركة شعبية تلقائية بمنأى عن كل القيادات وبعيدا عن كل الفصائل المهيمنة و المتناحرة على الساحة وهوما يجرنا للقول بأن المعركة ستكون طويلة وأن حكومة الاحتلال الإسرائيلي لن تتحرج من مواجهة الانتقادات والاتهامات التي ستواجهها من بعض المنظمات الحقوقية وستجد كل التبريرات من الإدارة الأمريكية الراهنة ومن كل الصقور العائدين اليها بترحيب معلن من رئيس الوزراء الإسرائيلي ناتنياهو الذي لا يخفي قناعته بأن إدارة ترامب تبقى الحليف الاكبر لإسرائيل بين مختلف الإدارات السابقة …
النقطة الثانية وتتعلق بالموقف المخجل للاتحاد الأوروبي الذي كانت معارضته للقرار الأمريكي أشبع بدفع اللوم من الانتصار للقانون والعدالة الدولية وهي مسألة أيضا ما انفكت تتكرر على مدى عقود حيث تبقى عقدة الذنب الأوروبية ازاء المحرقة قائمة وحيث تستمر معها لعبة صكوك الغفران والابتزازات التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وورقة معاداة السامية في وجه من يتجرأ على انتقاد جرائم كيان الاحتلال والمحارق المقترفة في حق الشعب الفلسطيني والعربي على مدى عقود …
النقطة التالية فتتعلق بالاجتماع الطارئ لجامعة الدول العربية اليوم الأربعاء بعد وقوع الفأس في الرأس والذي لا محل له من الأعراب سوى تسجيل الحضور في زمن الانهيار غير المسبوق في المشهد العربي الذي امتد من التشتت والتفكك والانقسامات إلى الفتن والصراعات الدموية التي تجرف الجميع في منطقة الشرق الأوسط المتفجرة …
الملاحظة التالية فتتعلق حتما بالمستفيد الأبرز من الدمار الحاصل في المنطقة والذي تنفرد به إسرائيل التي تتمعش مما أصاب العراق من ضعف وما أصاب سوريا من حروب أهلية و خراب مستمر وحتى مما أصاب اليمن الذي استطاعت اختراقه والحصول على النسخة الوحيدة من التوراة التي كانت محفوظة في هذا البلد …
الملاحظة الرابعة فتتعلق بالدول التي شاركت في تدشين السفارة الأمريكية بالأمس و المقصود بها ليس غواتيمالا أو بيرما ولكن قائمة الدول الأفريقية وبينها أثيوبيا وأنغولا و الكامرون و كينيا و نيجيريا و رواندا و جنوب السودان و تنزانيا و زامبيا و الكونغو و ساحل العاج و هي أحد عشر دولة من بين خمسين دولة أفريقية وهنا خطورة الاختراق الإسرائيلي للقارة الأفريقية في السنوات القليلة الماضية وهو أمر ما كان ليحدث قبل سنوات عندما كان الصوت الأفريقي موحدا في وجه الاحتلال على الأقل في المنابر الدولية ..
بقي الأهم ما الذي يمكن القيام به ازاء هذا المشهد ؟… لقد كشفت صفقة القرن أن أكبر المستثمرين الذين دفعوا ترامب الى هذا الخيار هم ثلاثة من أكبر المتبرعين للرئيس الأمريكي في الحملة الانتخابية ، وهم شيلدون أديلسون، ملك القمار و الداعم الأكبر للاستيطان، ورجل الأعمال برنارد ماركوس، وبول سينجر، وثلاثتهم من اليهود المتزمتين الداعمين للاستيطان وهم من مولوا وخططوا لمقر السفارة الأمريكية الجديد وتحملوا تكاليف بنائها ودفعوا بثقلهم المالي وراء ترامب وهم أيضا من أعادوا جون بولتون إلى الإدارة الأمريكية , ومن هنا التناقض الصارخ في المشهد الفلسطيني الذي فقد خلال السنوات الماضية الكثير من الدعم و التمويل الذي كانت تحظى به المخيمات عربيا ودوليا ليطغى على السطح في المقابل عقد صفقات التسلح التي تتنافس على توقيعها دول عربية لتدمير بعضها البعض واستنزاف بعضها البعض و دفع شبابها و شعوبها للضياع والتشتت والغرق في الجهل والتخلف …
لو كتب لفلسطين أن تحدث العالم اليوم لما اهتمت بما يقوم به سماسرة وتجار القضية ولما توقفت عند خطوط أكبر وأخطر مؤامرة في التاريخ الحديث …ولما توقفت عند ترامب و زمرته ولا حتى عند كل الأطراف المعنية بصفقة القرن ..
ولكن لو كتب لفلسطين أن تتحدث فأنها ستروي حتما للتاريخ حكاية شعب الجبارين الذي لا يعرف اليأس الى قلبه طريقا وهو شعب عجزت قوى الاحتلال عن كس إرادته وقتل الطموح والكبرياء فيه , ولو كتب لفلسطين أن تتحدث لا خبرت العالم بحكاية كل أم فلسطينية تودع فلذة كبدها بالزغاريد ولا تتردد في زف الثاني للشهادة, و لأخبرت صناع القرار فيه عن كل طفل فلسطيني يولد وهو يردد في مهده كالمسيح عبارة فلسطين مكذبا نبوة حاخامات إسرائيل أن الكبار سيموتون والصغار سينسون …
ولو كتب لفلسطين أن تتحدث اليوم ستروي حكاية كل حجر على أرضها صنعت ملحمة الانتفاضة و ستروي حتما أن اسم فلسطين سابق للتاريخ وأنه باق على مدى التاريخ وأن على تلك الأرض من يرسمون كطائر الفينيق بدمائهم وأحلامهم بقية أسطورة أزلية …
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/05/17