آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
أسعد أبو خليل
عن الكاتب :
(مواليد 16 آذار/مارس 1960) هو بروفيسور لبناني-أمريكي في العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا، ستانيسلاوس ويحاضر في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. كتب أسعد أبو خليل: القاموس التاريخي للبنان (1998)، حرب جديدة على الإرهاب مع بن لادن، والإسلام وأمريكا (2002)، المعركة من أجل السعودية (2004). يدير مدونة تحت عنوان، "وكالة أنباء العربي الغاضب".

تطبيع الدولة وتطبيع المجتمع: المخرج اللبناني (الكوني) وسبيلبرغ


 أسعد أبو خليل

 الترويج للتطبيع وشنّ الحرب على حركة المقاطعة يجري من خلال حكومات الغرب (أرشيف)

فلنجرِ مقارنة بين مصر ولبنان. لبنان دولة لم تعقد معاهدة سلام مع العدوّ الإسرائيلي (أو بالأحرى هي عقدت إلى أن ثار الشعب ضدّها)، فيما تربط معاهدة سلام (مُذِلَّة) بين ومصر ودولة العدوّ. الحكومة المصريّة تقيم حالة من التطبيع والتنسيق الرسمي مع حكومة العدوّ فيما يرفض المجتمع المصري برمّته، وبالرغم من كلّ الضغوطات، أي تطبيع مع إسرائيل.

وقد توافقت كل أطياف ما يُسمّى - لأغراض خبيثة في لبنان - بـ«المجتمع المدني» على نبذ كل أشكال التطبيع وعلى إلزام أعضاء النقابات والهيئات والتجمّعات الشعبيّة والمهنيّة برفض التطبيع (والشيء نفسه ينطبق على الأردن). أما في لبنان، فليس هناك مِن تطبيع مُعلن بين الدولة وبين دولة العدوّ لكن ما يُسمّى بـ«المجتمع المدني» بات متوافقاً على الترويج للتطبيع ومحاربة المقاطعة. لقد تشكّل في لبنان حركة لمعارضة التطبيع فيما تنتشر حركات المقاطعة ضد إسرائيل في دول الغرب. أي أن مصر تعاني من تطبيع الدولة فيما يعاني لبنان من تطبيع المجتمع - أو النخبة الثقافيّة والإعلاميّة والمنظمّات «غير الحكوميّة». قبل أسابيع، زار الأستاذ المتقاعد في الجامعة الأميركيّة في القاهرة، سعد الدين إبراهيم، دولة العدوّ وألقى محاضرة في جامعة تل أبيب. ماذا كانت ردّة الفعل في مصر؟ رفضٌ قاطعٌ وغضبٌ واسعٌ. ووقّعَ أساتذة الجامعة الأميركيّة في القاهرة عريضة تشجب التطبيع وتدين فعلة إبراهيم. وردّ الأخير في بيان خجول يحاول فيه كعادته خلق الأعذار وتصنّع خدمة أهداف وطنيّة. في لبنان، في المقابل، تشكّل شبه إجماع في النخبة الثقافيّة على أن زيارة لبناني لدولة العدوّ، والتنسيق مع أجهزة الحكم فيها لتصوير فيلم (لا يخدم القضيّة الفلسطينيّة في شيء)، والإقامة لأشهر طويلة فيها لا تشكّل تطبيعاً. والمُخرج اللبناني (الكوْني) المذكور، أفتى بأن إقامته في فلسطين المحتلّة ليست تطبيعاً لأن التطبيع لا يكون إلا بين الدول. يحتاج المخرج إلى تثقيف ومزيد من العلم للتمييز بين أنواع التطبيع (قال إنه درس تاريخ لبنان عبر «يوتيوب» وعبر استشارة الصحافي اليميني الرجعي، جورج غانم، في التحضير لفيلمه الأخير، المُهين للشعب الفلسطيني).

الخلاف في لبنان يدور بين فريقيْن، فريقٌ صادقٌ وفريقٌ مُخادع ومُنافق. هناك فريق يزعم أن «إسرائيل عدوّ» —ويكتفي بهذه العبارة ولا يردّدها إلا عندما تظهر مواقفه قريبة جدّاً من مواقف العدوّ ومفيدة له— وهناك فريق يؤمن أن إسرائيل عدوّ وأن مقاومة العدوّ ومقاطعته واجبٌ وطنيّ وأخلاقي. الفريق الأوّل يزعم أن «إسرائيل عدوّ» لكنه يعارض سلاح المقاومة ويطالب بنزعه. وهو كان يزعم بعد ٢٠٠٥ أن موقفه نابع من إيمانه بأن النضال الأفعل ضد إسرائيل هو نضال ثقافي وديبلوماسي سلمي. لكن الحماسة الشديدة من قِبل أعداء المقاومة (في الطبقة السياسيّة وفي النخب الثقافيّة والإعلاميّة) تُثبتُ أن هؤلاء أعداء للنضال العسكري والسلمي ضد العدوّ، مما يحتّم طرح السؤال على أصحاب شعار «إسرائيل عدوّ»: كيف تترجمون عداءَكم المزعوم ضد إسرائيل؟ ما هي الطرق التي تعبّرون فيها عن عدائكم ضدّ إسرائيل وانتم من ألدّ أعداء مقاومة -وحتى مقاطعة- إسرائيل؟ عبده وازن في «الحياة» يقول إن هناك «طرقاً» مناسبة للمقاطعة وأخرى غير مناسبة. وغطّاس خوري يفصل بين مقاطعة الجوهر والشكل، من دون عناء الشرح. لكن ما سبب أن أحداً من أعداء المقاطعة لم يطرح مرّة أسلوباً أو طرقاً مغايرة بديلة عن أسلوب وطرق حركة المقاطعة؟ الوحيد الذي كان صريحاً في ربط موضوع الأفلام بضرورة تعديل أو تغيير الموقف من إسرائيل كان حازم الأمين في «الحياة» عندما طرح في مقالة عن المخرج اللبناني محاججة حول ضرورة نبذ فكرة أن إسرائيل هي «شرٌّ مطلق» (هل إسرائيل هي شرٌّ نسبيّ، مثلاً؟ لنُناقش ذلك). من الصحّي أن يصرّح الكتّاب بمكنوناتهم بدلاً من اللجوء إلى أساليب ملتوية مثل ربط سماح إدريس ورفاقه العلمانيّين في حركة المقاطعة بولاية الفقيه.

ولنفاق فريق معاداة المقاطعة والمقاومة أوجه أخرى. فريق المقاطعة هو فريق صغير من دزّينة من الناشطين والناشطات العلمانيّات الذين لا يتلقّون دعماً أو تمويلاً من حكومة أو حزب أو نظام أو منظمّة دوليّة. كل الأنظمة العربيّة تنصّلت من المقاطعة بأمر أميركي، وحزب الله لم يأتِ إلى معركة المقاطعة الأخيرة إلاّ متأخراً ومن دون مشاركة واسعة من جمهوره أو حتى من نوّابه ووزرائه. أما منظمّات وشركات وحملات فريق محاربة المقاطعة فهو مدعوم من أنظمة الخليج ومن أجهزة السلطة اللبنانيّة ومن منظمّات دوليّة أو من دول غربيّة في حالات. إن العاملين والعاملات في منظمّات غير حكوميّة والناشطين ضد المقاطعة لا يمكن أن يبقوا في وظائفهم في حال مناصرتهم للمقاطعة. هذه باتت من شروط التوظيف البديهيّة في الإعلام العربي وفي منظمّات «الإن. جي. أو» المُمَوّلة غربيّاً، أو في منظمّات دوليّة تلقى تمويلاً أميركيّاً أو أوروبيّاً. أي أن هناك تفسيراً من الاقتصاد السياسي لفريق محاربة المقاطعة.

وكان طريفاً أن ينبري الكتّاب اللبنانيّون لرفع شعار حريّة التعبير في إعلام أمراء آل سعود. وكاتب لبناني كتب في الصفحة الأولى من جريدة «الحياة» في رفض مقاطعة ستيفن سبيلرغ، بسبب تمويله للعدوّ الإسرائيلي مكافأة له على عدوانه على لبنان في حرب ٢٠٠٦. لكن مواقف هؤلاء الكتّاب ليست مستقلّة البتّة. مَن كان في سنّي يذكر أن بعض هؤلاء الكتّاب —مثل سمير عطالله- كتب في هجاء أنور السادات في صحافة سعوديّة وإماراتيّة التمويل عندما كانت معارضة أنور السادات سياسة معلنة لدول الخليج. لكن عطالله نفسه بات يكتب مُغدقاً المديح على السادات عندما تغيّرت السياسة السعوديّة المعلنة نحوه. هؤلاء كانوا ضد التطبيع عندما كانت دول الخليج ضدّه، وأصبحوا معه عندما أصبحت دول الخليج (النفطيّة والغازيّة) معه.

والطرافة أن فريق الحريّات المطلقة يتمثّل بأنظمة أبعد ما تكون عن الحريّات، وهم صريحون في ذلك. هاكم (وهاكنّ) منى فيّاض في جريدة «النهار» تجري مُقَارِنةً بين الحريّات في لبنان وبين دول الخليج: «وهكذا نجد أنه في حين يذهب الخليجيّون نحو ممارسة ديموقراطيّة المعرفة مشدّدين على دور الثقافة في النهوض الاقتصادي ودور القطاع الخاص في إطلاق ديناميّة ثقافيّة بعيداً عن هيمنة السلطة السياسيّة». بعيداً عن هيمنة السلطة السياسيّة؟ في الخليج؟ هل هي تتحدّث عن السعوديّة وقطر والإمارات أم عن السويد والنروج؟ هل يمكن أن تصدّق النوايا الديموقراطيّة لمَن تتمثّل بالحريّات وتسامح السلطة السياسيّة في أنظمة الخليج؟ لكن هذا يكشف الطابع الحقيقي لحملة معاداة المقاطعة (أو الترويج للتطبيع تحت مسميّات مزيّفة عن الحريّات): هذا مشروع عالمي وإقليمي ومحلّي، ويمكن فهمه أكثر من خلال الاقتصاد السياسي للتطبيع.

فريق الحريّات المطلقة يتمثّل بأنظمة أبعد ما تكون عن الحريّات

إن الترويج للتطبيع وشنّ الحرب على حركة المقاطعة يجري من خلال حكومات الغرب، ومحليّاً عبر وسائل الإعلام العربيّة المرتبطة بأنظمة الخليج وبحكومات الغرب، كما أنها تجري من خلال منظمات غير حكوميّة و«منابر» على الانترنت مموّلة من دول الغرب، بالإضافة إلى منظمّات دوليّة. هل يمكن للصحافي اللبناني الذي يكتب في إعلام أمراء آل سعود أن يبقى في وظيفته لو أنه شنّ حرباً على التطبيع؟ وهل أن أنطوان الصحناوي، المُنتج اللبناني، كان يمكن أن يساهم في إنتاج الفيلم المذكور، لو أن رسالته كانت مع المقاومة الفلسطينيّة؟ هل يبقى موظّف أو موظّفة في الوظيفة في منظمّة غير حكوميّة لو أنها جاهرت بمعاداة التطبيع؟ والسلطة اللبنانيّة ضالعة (في بعض عناصرها) في حملة التطبيع هذا لأن معظمها لا يؤمن بأيديولوجيّة مناهضة وجوديّاً لإسرائيل. مشكلة جبران باسيل مستعصية في هذا الشأن، لكنها ليست فريدة. ما هي العقائد التي ترفض وجود إسرائيل عند معظم الأحزاب والحركات اللبنانيّة؟ مَن مِن هذه الأحزاب تظاهرَ عندما فرض التحالف السعودي ــ السوري اتفاقيّة السلام العربيّة على لبنان في قمّة بيروت؟ إن حركة محاربة المقاطعة هي حركة منظمّة، وهي سياسة مُنتَهَجة من الحكومة الأميركيّة ومن الاتحاد الأوروبي والأنظمة الخليجيّة المُستحوِذة على الجامعة العربيّة. وفروع الحركة المنظمّة هذه في لبنان يزعمون أن حركة المقاطعة هي جزء من نظام شمولي عالمي. وعمد البعض على وسائل التواصل وفي الإعلام العربي إلى ربط حركة المقاطعة بحاكم كوريا الشمالية، كأن المقاطعة والحظر منبوذان في الغرب.

إن انتهاج المقاطعة من قبل ناشطين وناشطات من أجل فلسطين، وانتشار الحركة هذه في الجامعات الغربيّة (إن حركة المقاطعة في بعض الجامعات الأميركيّة أنشط مما هي عليه في الجامعة الأميركيّة في بيروت) ليس إلّا تقليداً لممارسة المقاطعة من قبل المنظمات اليهوديّة والجمعيّات الصهيونيّة بعد صعود النازيّة. واللوبي الصهيوني في واشنطن هو أفعل حركة مقاطعة في العالم الأجمع، وهو الذي كان وراء سنّ قوانين المقاطعة والمعاقبة والحظر من قبل الكونغرس الأميركي ضدّ كل مَن تراه إسرائيل عدوّاً لها أو خطراً عليها. وعليه، فإن اللوبي الصهيوني كان وراء سنّ قوانين أميركيّة في عام ١٩٧٧ ضد المقاطعة العربيّة ضد إسرائيل وحظر الالتزام بالمقاطعة على أي شركة أميركيّة. وكانت المقاطعة آنذاك جد فعّالة وهناك حسابات دقيقة من قبل اللوبي الصهيوني آنذاك لمدى خسارة إسرائيل اقتصاديّاً من المقاطعة العربيّة عندما كان مُلتزَماً بها. بعد عام ١٩٩١، فرضت أميركا على الجامعة العربيّة نبذ المقاطعة الشاملة، وهذا يفسّر لماذا علمنا بقرار الجامعة العربيّة عن سبيلبرغ من «ويكيليكس»: أي أن مكتب المقاطعة أصدر قرارَه سرّاً ومن دون إعلانه، لأن لا جديّة في تطبيقه أو تعميم القرار.

ورافضو الاعتراض على مقاطعة فيلم المخرج اللبناني (الكوني) متنوّعون، ومنهم مَن يعتبر نفسَه من مؤيّدي القضيّة الفلسطينيّة. لكن سطوة حركة معاداة المقاطعة وسيادة موقفها في وسط النخبة الثقافيّة والإعلاميّة أخرسَ باقي الأصوات، أو أن إجماعاً حديديّاً متراصّاً ساد بين الذين يعيبون على دزّينة الناشطين في حركة المقاطعة أنهم شموليّون ومن جماعة فرض الرأي الواحد. وأفلام المخرج المذكور تستحق الاعتراض لأكثر من سبب، حتى قبل إقامته في فلسطين المحتلّة. فيلم «ليلى تقول» يحمل أبشع أشكال التنميط الاستشراقي المبتذل عن ذوي الأصول العربيّة في الغرب. لكن الفيلم الأخير هو عبارة، باعتراف المخرج، عن إحياء لمشروع بشير الجميّل وتسليط الأضواء على سيرة كاذبة عن معركة الدامور التي أشعلها الكتائبيّون في المدينة. وهل أن حصول الفيلم على الترشيح غير مرتبط بمضمونه المعادي للقضيّة الفلسطينيّة؟ يمكن أن تصدّق ذلك إذا صدّقت أن موضوع إسرائيل غير مرتبط بحصول هؤلاء العرب على جائزة نوبل: أنور السادات وياسر عرفات وأحمد زويل ونجيب محفوظ ومحمد البرادعي، لكن بعد عقدهم لاتفاقيّات سلام مع العدوّ، أو بعد زيارتهم للكيان الغاصب (أو بعد تصريحهم برغبتهم في السلام مع العدوّ، في حالة نجيب محفوظ). عليك أن تتعامل مع قرارات لجنة «الأوسكار» على أنها منزّهة عن الهوى الصهيوني. وهل كان الفيلم لو أنه يحمل رسالة تمجيد بالمقاومة الفلسطينيّة كان يمكن أن يصل إلى الترشيح؟ وهل كان غطّاس خوري (الذي لا نعرف عن عهده في وزارة الثقافة إلّا رفض المقاطعة ضد إسرائيل —هذا عنوان ثقافته) قد تبنّى الفيلم لو أن رسالته كانت مع المقاومة؟ هل كان سيُسمح بعرضه في أميركا، وفي رعاية منظمّات صهيونيّة؟ أما أن منتج الفيلم، ومُوزّعه في أميركا الشماليّة، شارل كوهين، صاحب شركة «كوهين ميديا غروب»، هو الحاصل على جائزة سلام إسرائيليّة، وفي حفل جمع ٥٢ مليون دولار لـ«سندات إسرائيل»، فهذا محض صدفة ولا يشين المخرج اللبناني (الذي رضع مقاومة في طفولته، وكان ذلك قبل أن يشاهد خطباً —يقول كذِباً إنها كانت ممنوعة في بيروت الغربيّة— لبشير الجميّل على «يوتيوب»).

صهاينة أميركا يفرضون مقاطعة حكوميّة على كل ما لا يروقُهم

والمُخرج يعد في مقابلات أجنبيّة (نفاها بالعربيّة على شاشة لبنانيّة متعاطفة معه في برنامج «كلام (بعض) الناس»، المتحمّس للتطبيع) أنه سيكرِّس فيلمه المقبل لمحاربة «بي. دي. إس». وهو يجعل من نفسه ضحيّة لقمع الـ«بي. دي. إس» الذي يكنّ لها من العداء ما لا يكنّ لدولة العدوّ (هو قال في البرنامج نفسه ردّاً على سؤال إنه يعتبر أن إسرائيل عدوّ، لكنه لم يشرح كيف يترجم عداءه هذا، كما أن جريدة «الحياة» أفتت أنه أعطى هذه الإجابة تحت الضغط والإكراه).

والربط في الدفاع عن المخرج الكوني والدفاع عن ضرورة عرض فيلم سبيلبرغ، «ذا بوست»، عن معركة «واشنطن بوست» مع إدارة نيكسون من أجل نشر «أوراق البنتاغون»، يدلِّل على أن الحملة واضحة المقاصد والمرامي. والحماسة في الحملتيْن يؤشِّر إلى غياب العفويّة في الردود. كما أن الجهد الذي يبلغه المدافعون عن سبيلبرغ يكاد أن يكون مضحكاً: من الأكيد أن سبيلبرغ تبرّع بمليون دولار لإسرائيل مكافأةً لها على عدوانها على لبنان، لكن هناك من جهد في اختلاق الأعذار له: ١) القول إن تبرّعه كان إنسانيّاً من أجل الأطفال اليهود في إسرائيل، مع أنه تبرّع لمنظمّات لا تختصّ بالأطفال فقط. ثم هل أميركا —الذي يتمثّل بحريّتها أعداء المقاطعة— تسمح مثلاً بتبرّع لمستشفى أو مدرسة مرتبطة بـ«حماس» أو حزب الله»؟ لقد زُجّ بأميركي في شيكاغو بالسجن لأنه تبرّع لمستشفى قالت الحكومة الأميركيّة إن «حماس» تديرها. ٢) مارسيل غانم زعم أن المبلغ هو ٣٥٠ ألف دولار — وهذا غير صحيح — كأن المقاطعة هي حول القيمة وليس حول المبادرة لصالح العدوّ وعدوانه. ٣) الخبير السينمائي جينو رعيدي زعم أن مخرج الفيلم لا يتلقّى أي مبلغ من عائدات الفيلم بمجرّد أن ينتهي من تصوير الفيلم. إن سبيلبرغ هو أيضاً صاحب الشركة التي أنتجت الفيلم. أي أن ريوع عرض الفيلم في أي بقعة في العالم تصل إلى جيب المُخرج. والمخرجون، وحتى الممثّلون النجوم، يشترطون أحياناً في عقودهم أن يحصلوا عن نسبة من إيرادات الفيلم. ٤) أصرّ أعداء المقاطعة أن سبب المقاطعة هو دين سبيلرغ مع أن حملة المقاطعة لم تعبّر يوماً عن لا سامية. حتى حسن نصرالله أوضح أن دين سبيلبرغ ليس هو موضوع الاعتراض. على العكس من ذلك، فقد نضح خطاب معارضي المقاطعة باللا سامية عندما زعموا أن مقاطعة سبيلبرغ لا تجدي لأن «كل هوليوود يهود وأن كلهم صهاينة». والزعم غير صحيح في شقيْه. تغيّرت ملكيّة شركات الأفلام، كما أن الافتتان بإسرائيل لم يعد كما كان في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. لا تزال المجاهرة بنصرة فلسطين ضارّة في كل مجالات العمل هنا، بما فيها هوليوود. لكن معظم نجوم هوليوود اليوم صامتون وصامتات عن مسألة الصراع العربي ـــ الإسرائيلي فيما كان كل نجوم هوليوود في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من المتحمّسين للاحتلال الإسرائيلي. باتت إسرائيل تبحث عن نجوم أفلام الـ«أكشن» كي تكتسي شرعيّة هوليووديّة. ٥) ولأن سبيلبرغ مخرج تجاري ناجح وجماهيري، فإن جمهور عبادة الرجل الأبيض في بلادنا يرى أن اللحاق بكل ما هو ناجح تجاريّاً في الغرب يكون علامة ترقٍّ في عالمنا الثالث. هناك مَن استعمل عبارة ثقافة وحضارة عن أفلام سبيلبرغ، الذي حتى النقّاد الأميركيّون، مثل الراحلة باولين كايل في «نيويوركر»، عميدة نقّاد السينما في أميركا، وصفته بالمخرج الميلودرامي «السيّئ جدّاً»، مضيفة أنها «تخجل به». أما المُخرج الفرنسي المُبدع، والمتعاطف مع فلسطين والذي لا يلقى مَن يدافع عنه وعن أفلامه في لبنان، جان-لوك غودار، فقد قال عن سبيلبرغ إنه يتحمّل مسؤوليّة «غياب القيمة الفنيّة في السينما السائدة»، كما أن اتهامات طالته بشأن الاستغلال التجاري للمحرقة في فيلمه «قائمة شندلر» (وقد أهملت أكاديميّة «الأوسكار» سبيلبرغ المخرج طيلة السنوات التي سبقت فيلمه عن المحرقة). الممثّل شيا لا بوف كان على حق عندما وصف سبيبلبرغ بأنه ليس مخرجاً بل شركة. ٦) لماذا يتنطّح بعض هؤلاء في الدفاع عن المتهمين أو المحكومين بالعمالة لإسرائيل في حديثهم عن المقاطعة؟ ألا يوحي هذا بما لا يتماشى مع مقاصدهم المعلنة وتصنيفاتهم؟

هناك عرب أميركيّون تزهو بهم جريدة «النهار» و«إل. بي. سي»: أغلبهم أصحاب ثروات ومشعوذون ورجعيّون ونصّابون وبعضهم صهاينة مُجاهرون. لكن أحداً في إعلام لبنان لم يكتب عن الأميركي من أصل لبناني، الراحل جاك شاهين. هذا اللبناني نذر حياته كلّها لرصد المضامين الصهيونيّة والمعادية للعرب في الإنتاج الأميركي السينمائي والتلفزيوني. كان همّه مناشدة شركات الأفلام والمحطات التلفزيونيّة أن تنصف وجهة نظر شعب فلسطين، وأن ينتهي تنميط العربي في الأفلام الأميركيّة. في كتابه «العرب الأشرار، سينمائيّاً»، يذكر شاهين أفلام سبيلبرغ كنموذج عن الأفلام المُحقَّرة للعرب (لكن فاته فيلم «ميونيخ» المليء بالأكاذيب والدعاية الصهيونيّة). جاك شاهين درس ونقد أفلام «العودة إلى المستقبل» وفيلم «إنديانا جونز والحملة الأخيرة» ووجد فيهما عنصريّة فاضحة ضد العرب. حتى جورج لوكاس انتقد مشهداً عنصريّاً مقيتاً (في «إنديانا جونز») عندما يطلق «البطل» الرصاص على عربي كان يحاول أن ينازله بالسيف (ص. ٤٢٠ من كتاب شاهين المذكور أعلاه). بعد الحرب العالميّة، لجأ اليهود إلى سلاح مقاطعة شركات ألمانيّة عملت وازدهرت في العصر النازي. أعرف يهوداً في أميركا لا يشترون، وبعضهم لا يركب، سيّارات ألمانيّة. والأفلام التي تتضمّن تصويراً مهيناً لليهود تتعرّض للمقاطعة والازدراء وحتى النفي التجاري. أما صهاينة أميركا، فهم يفرضون مقاطعة حكوميّة على كل ما لا يروق لهم. إن أميركا منعت دار نشر «سنت. مارتنز» من نشر مذكرات المناضل أبو داوود، بعد أن تمت ترجمتها إلى الانكليزيّة. والكتاب لا يزال محرّماً إلى اليوم. كل الدول الغربيّة تسنّ قوانين لمقاطعة وتحريم ما يمتّ بصلة إلى قائمة أعدائها. أما في لبنان، فهناك مَن يريد أن ينزع سلاح المقاومة حتى يصبح لبنان مجرّداً من سلاح ردعه الوحيد (لن تفي طائرات رش المبيدات الأميركيّة غرض الدفاع عن لبنان بوجه وحشيّة إسرائيل). وهؤلاء نفسهم يريدون أيضاً أن ينزعوا سلاح المقاطعة السلمي — وهو أضعف المقاومة بوجه العدوّ. لكن هؤلاء يرفضون التخوين: لا يجوز التخوين أو رمي تهم العمالة... إلا عندما تصدر عنهم ضدّ كل مَن يختلف معهم في الرأي.

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/02/03

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد