قصة وحدث: #الشهيد_الصدر ..اغتيال عبقرية..(٢)
سحر صالح ..
"أنا لا أعرف ما بين فقهاء الشيعة من يمكن أن يقال بحقه نابغة في العلوم الإسلامية، وفِي الفقه و الأصول إلا الشهيد الصدر" الإمام الخامنائي.
كان نبوغ السيد الصدر وفكره التجديدي سببا في غربته وعزلته في البيئة النجفية التي لم تكن تتقبل التنظير السياسي، و كانت تتمسك بنظرية " ولاية الفقيه الجزئية " التي لاتعطي للفقيه سلطة أكثر من الإفتاء والقضاء في مقابل أن السيد الشهيد الصدر كان يُنظّر لـ"ولاية الفقيه المطلقة" التي ترى أحقية الفقيه الذي هو نائب الإمام المعصوم بالسلطة في كافة جوانب الحياة الفقهية والسياسية والاجتماعية..فكيف بدأ الفقيه الفتي مسيرته في تلك البيئة؟..و إلى أين انتهى؟
بعد رحيله إلى النجف الأشرف في العام ١٣٦٥هـ/١٩٤٦م، وتتلمذه على يد أكابر مراجعها وعلمائها حصل السيد محمد باقر الصدر على إجازة اجتهاد خطية من أستاذه المرجع السيد أبو القاسم الخوئي بعد عشر سنوات فقط، ولَم يكن يتجاوز عمره الواحد وعشرون عامًا..وحينها تفرغ الفقيه الشاب لإعطاء مالديه ..كل مالديه لإصلاح الأمة..
الإلحاد المتفشي في ظل الانعزال الديني..
ولنبدأ الحكاية.. نحتاج إلى شرح الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاصرها الشهيد في العراق والنجف الأشرف تحديدا...
عاشت النجف والعراق عموما هجمة شرسة للأفكار الشيوعية الإلحادية ووجدت أحزاب لها في البيئة السياسية، مما أثر بشكل كبير على الناس في العراق .. كانت هذه الهجمة خلال الفترة بين ١٩٢٠م-١٩٥٨م أي بعد انتصار ثورة العشرين و انعزال قادتها عن المشاركة السياسية مقدمين الملكية الهاشمية متمثلة في الملك فيصل بن الحسين..وعلى أثر هذا الانعزال للمرجعية في العراق عن شؤون الناس العامة والسياسة تشكلت بيئة حاضنة للتيارات المختلفة ومنها الإلحادية لتستوطن العراق و تنخر عقول الشباب والشابات الذين هم أساس المجتمع..
يذكر المؤرخ العراقي عادل رؤوف بأنّ الماركسية في تلك الفترة استخدمت عداءها للدين بشكل مستفز"
ويقول السيد محمد الغروي أحد تلامذة الشهيد الصدر "رض" أنّه "لأول مرة كتب الماركسية الشيوعية تباع في النجف بسعر رخيص، وكتب المادية الديالكتيكية لخالد بقداش توزع مجانا..، بل بعض المشايخ وأصحاب المنابر كانوا يتحدثون عن أنّ الشيوعية أفضل من كل الأنظمة"!
تجمع العلماء..
في العام ١٩٥٨م سقطت ملكية العراق، فحدث انقسام في الساحة السياسية العراقية، و تشكلت تكتلات حزبية لم يكن بينها أحزاب إسلامية.
في هذا الجو والواقع كان السيد الصدر يفكر في شيء يعيد للشباب المتخبط انتماءهم، ويكون بذرة الحلم الذي كان يسعى له السيد الصدر ألا وهو إقامة الحكومة الإسلامية بقيادة الولي الفقيه.
تشكل في الحوزة العلمية في النجف الأشرف تجمع علمائي لفقهاء و مفكرين بدعم من المرجعية لاسيما السيد محسن الحكيم ، وسمي "تجمع العلماء". لم يكن السيد الشهيد عضوا في التجمع رسميا لصغر سنه لكنه كان فاعلا وبارزا في التجمع.
ونقلا عن السيد عبدالكريم القزويني تلميذ السيد الشهيد محمد باقر الصدر أنّ السيد كان يكتب النشرات التي يُتفق على أفكارها و مواضيعها وتطبع و توزع باسم "جماعة العلماء"، وكان السيد الشهيد المورد الرئيسي في كتابة هذه المواضيع التي كانت توزع في منشورات، وكان لها الأثر الكبير في تحطيم الأسطورة الماركسية.
لاحقا قام السيد الشهيد بإنشاء مجلة "الأضواء" الناطقة باسم الجماعة، بموافقة من السيد الحكيم. و كان الشهيد الصدر يتولى كتابة مقالها الافتتاحي تحت عنوان "رسالتنا" إلى أن وصلت المجلة لعددها الخامس الذي صدر بتاريخ ١٩أغسطس ١٩٦٠م، حيث كان هذا العدد الأخير الذي يتوج بمقال من كتابة السيد الصدر "رض"..
أما عن علة توقف السيد عن كتابة المقال الافتتاحي فيبدو أنها تعود لضغوط من الدولة وأخرى من داخل الحوزة حيث لم تكن بعض الأفكار المطروحة مقبولة، أو هناك نقاش في توقيت طرحها إلا أن السيد رغم أنه توقف عن كتابة المقال إلا أنّه استمرّ في و ضع الأفكار الرئيسة له.
حزب الدعوة..
في هذه الفترة أيضا أي نهاية الخمسينات الميلادية كان تأسيس حزب "الدعوة الإسلامية" على يد السيد الشهيد الصدر الذي كان المنظر؛ وواضع الأسس الفكرية للحزب، وبعض العلماء والمثقفين الإسلاميين، و من أبرزهم السيد مرتضى العسكري والسيد مهدي الحكيم نجل المرجع السيد محسن الحكيم وعبد الصاحب الدخيل وآخرون..
في العام ١٣٧٩هـ /١٩٥٩م، وبتوجيه من السيد الشهيد محمد باقر الصدر يقوم أحد تلاميذه، وهو الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي بعمل استفتاء إلى كل من المراجع: السيد محسن الحكيم، السيد ميرزا عبد الهادي الشيرازي السيد ميرزا مهدي الشيرازي و الشيخ مرتضى آل يس بما مضمونه: هل في الإسلام نظام كامل شامل لتنظيم الحياة؟ فيكون جوابهم جميعا نعم.
ويعلل الدكتور الفضلي القيام باستفتاء المراجع حول هذا الموضوع في تلك الفترة بوجود جبهة معارضة داخل الحوزة للنشاط الدعوي في مقابل التيارات الأخرى وكان لهذا الاستفتاء أثر في الحد من حالة المعارضة..
"فلسفتنا" و "اقتصادنا"..
لم يكتف السيد الصدر بالتنظير لحزب إسلامي بل ألّف كتابي "فلسفتنا" و "اقتصادنا" اللذان رد من خلالهما على كثير من الشبهات التي تطرح حول قابلية الإسلام ليكون نظاما متكاملا للحياة.
يذكر الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي بأنّ ماكان مطروحا قبل السيد الشهيد الصدر أنّ الإسلام "عقيدة وعمل" وكان السيد أول من أشار إلى أن الإسلام "عقيدة ونظام"...ويضيف الفضلي أنّه "عندما صدر كتاب اقتصادنا أثبت أمام الآخرين هذه الحقيقة".."كتبت مرة أنّ كتاب اقتصادنا و كتاب فلسفتنا من الكتب النوادر التي تمر في الحياة وتخلد أصحابها، وهي لاتتخلف في تأثيراتها الفكرية والحضارية عن كتاب الحكمة لكونفشيوس وجمهورية أفلاطون و المدينة الفاضلة للفارابي"..وبحسب الدكتور الفضلي فإنّ هذين الكتابين "استطاعا أن يدخلا الإسلام قوة فكرية و تيارا فكريا ثالثا بالإضافة للشيوعية والرأسمالية"
السفر إلى لبنان..
إلى حيث موطن أجداده في جبل عامل بلبنان يسافر السيد محمد باقر الصدر في العام ١٩٦٢م في زيارة إلى أبناء عمومته هناك، عائلة السيد صدر الدين الصدر، والد السيد موسى الصدر، و يتزوج من ابنة عمه السيدة فاطمة صدر الدين الصدر "أم جعفر"..
يروي بعض من رأوه هناك عن تواضعه وزهده وبساطته أنه يوما أقام وليمة لبعض العلماء، فأجلسهم على فرش بسيطة على الأرض، و كانت الوليمة من أبسط ما يكون الطعام كالبيض المسلوق والخبز..
إعلان الانسحاب..
حاول النظام البعثي إيقاف نشاط السيد الصدر بأية وسيلة إذ شعر بالخطر يتهدد مطامعه في الحكم..، ومع الضغوطات المتواصلة من كل من النظام و الحوزة أعلن السيد محمد باقر الصدر انسحابه من حزب الدعوة في العام ١٩٦٤م،٦ لكن هذا الإعلان شكل مثارا للجدل في أسبابه وحقيقته..ورغم الاختلاف في الأقوال إلا أن أغلبها تؤكد أن السيد لَم يغب عن اجتماعات الحزب بل بقي يوجهه ويحتضنه..
وجاء في الرسالة التي أرسلها السيد الشهيد إلى قيادة حزب الدعوة: "بتُّ الليلة و أنا أرِقٌ أفكر في هذا الموقف، و إنه ليعز عليّ مثل هذا الموقف، إنّ آية الله الحكيم طلب مني أن لا أكون في التنظيم، و أنّ هذا رأيٌ إلزاميٌّ له، و عليه فأتوقف الآن عن الانتماء للتنظيم طالبًا منكم الاستمرار بجد في هذا العمل، و أنا أدعمكم في عملكم الإسلامي المبارك"
ولا تنٰـزعوا فتفشلوا..
نأى السيد بمشروعه الوليد، "حزب الدعوة"، عن أي نزاعات إسلامية-إسلامية و كان كثيرا ما يردد "الدعوة أمل الأمة"..
وعلى ساحة التنظير الفقهي لم يواجه السيد المخالفين له بما يعمق الانقسام ويثير النزاعات..بل كان يرد على الآراء السائدة بشكل عام دون أن يتعرض لشخص أحد بما يسيئه..لقد كان السيد الصدر محبا للجميع وعطوفا بشكل كبير..
حزب البعث في السلطة..
بعد عدة انقلابات ومحاولات حزب البعث للوصول إلى السلطة في العراق ينجح البعث في الانقلاب على السلطة العارفية الضعيفة آنذاك وفي ١٧يوليو ١٩٦٨م يدخل صدام حسين قصر الرئاسة في دبابة لابسا الزِّي العسكري مفتتحا المرحلة البعثية الدموية في العراق..
محنة المرجعية..
قام النظام البعثي بإغلاق الحوزات العلمية و تسفير الطلاب الأجانب المنتمين للحوزة، كما فرض الخدمة العسكرية الإلزامية على طلاب العلوم الدينية العراقيين. حينها توجه المرجع السيد محسن الحكيم إلى بغداد، وانهالت الوفود العراقية المؤيدة إلى منزله هناك وكان السيد محمد باقر الصدر أول من يصل من الشخصيات البارزة إلى بيت السيد الحكيم في وقت تغيب فيه كثيرون.
وفِي تصعيد جديد من نظام البعث، اتُّهم نجل السيد محسن الحكيم، السيد مهدي الحكيم بالجاسوسية و التعامل مع الأكراد وشيعة إيران والمخابرات الأمريكية.
وقبل ذلك بيوم تقريبا كان السيد محمد باقر الصدر أوفد تلميذه الشيخ حسين كوراني إلى مدينة الخالص لتنظيم وفد شعبي دعما للمرجعية المتمثّلة في السيد محسن الحكيم ويقول الشيخ حسين:" أنا تركت بيت السيد الحكيم في الليل و كان يضجّ بالناس هو والمنطقة المجاورة له وآخر وفد أتذكره كان وفد الديوانية وشعارهم المرفوع (نفديك بآخر نفس من أنفاسنا) و بعد يوم لم أَجِد أحدا ..أنا رأيت أمامي حالة مشابهة للكوفة مع الشهيد مسلم بن عقيل".
من المسؤول عن المِحنة؟!..
و خلال محاضرتين ألقاهما السيد محمد باقر الصدر في تلك الفترة بعنوان "المفهوم القرآني للمحنة" قال :"لماذا تعيش الحوزة في هذا البلد مئات السنين ثم بعد هذا يظهر إفلاسها؟! في نفس هذا البلد الذي نعيش فيه..في نفس هذا البلد يظهر إفلاس هذه الحوزة، وإذا بأبناء هذا البلد، أو بعض أبناء هذا البلد يظهرون بمظهر الأعداء والحاقدين و الحاسدين و المتربصين بهذه الحوزة، ألا تفكرون بأنّ هذه جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم؟، في أنّ هذه مسؤوليتنا قبل أن تكون مسؤوليتهم؟، لأننا لم نتعامل معهم، نحن تعاملنا مع أجدادهم ولَم نتعامل معهم، فهذه الأجيال التي تحقد علينا وتتربص بنا اليوم تشعر بأننا نتعامل مع الموتى لا نتعامل مع الأحياء ولهذا يحقدون علينا، ولهذا يتربصون بنا، لأننا لم نقدم لهم شيئا..لأننا لم نتعامل معهم".. هكذا كان يرى السيد أسباب تراجع التأييد الشعبي للمرجعية..
السفر الثاني والأخير إلى لبنان..
في ٥ يونيو ١٩٦٩م، سافر السيد محمد باقر الصدر إلى لبنان للقاء ابن عمه رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السيد موسى الصدر، وهناك نظّم السيد الشهيد بالتعاون مع السيد موسى حملة ضدّ النظام البعثي في محاولة لتخفيف الضغط على المرجعية في العراق. وقد وزعت المنشورات وملأت الملصقات التي تحمل عنوان "محنة المرجعية" شوارع بيروت.
أرسل السيد موسى الصدر برقيات إلى رؤساء الدول العربية والإسلامية يناشدهم التدخل لوقف استهداف المرجعية في العراق من قبل النظام البعثي، كما أثار هذه القضية خلال لقاء في القاهرة مع كل من الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة السعودية آنذاك و الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
كما أوفد الإمام موسى الصدر الشيخ محمد فرحات إلى سوريا والتقى فرحات هناك بالرئيس حافظ الأسد وكان وقتها وزير الدفاع و تباحث معه حول إمكانية أن تساعد سوريا في حلحلة الوضع في العراق.
وكردة فعل على حملة السيدين من آل الصدر ضد النظام في العراق منعت بغداد رعاياها من السفر إلى لبنان وتفاقم الوضع أكثر بعد تعرض ابن الرئيس العراقي آنذاك أحمد حسن البكر إلى ضرب مبرح في إحدى بلدات جبل لبنان من قبل مجهولين، حينها أنذرت الحكومة العراقية رعاياها في لبنان بالعودة خلال ٢٤ساعة .
الرحيل المؤلم ..
عاد السيد محمد باقر الصدر إلى العراق إثر تأزم الوضع بين لبنان والعراق وهو يترقب أن يتم اعتقاله من الحدود إلا أن ذلك لم يحدث.
٢يونيو ١٩٧٠م توفي المرجع الأعلى في العراق السيد محسن الحكيم الذي كان حاضنا لنشاط السيد محمد باقر الصدر الحركي الإجتماعي والسياسي..وكان رحيله مؤلمًا للسيد محمد باقر الصدر الذي فقد برحيل السيد الحكيم المرجعية الحاضنة و المتقبلة لحركته الدعوية..فماذا بعد رحيل السيد الحكيم؟!..هل استطاع السيد الصدر تحقيق مشروعه ؟..
أضيف بتاريخ :2017/03/01