27 يناير - إنطلاق مقاومة الأمير «عبدالقادر» ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر
بين الحاضر الذي نعيشه اليوم والماضي ألف حكاية وحكاية، خلدها التاريخ عبر قصص قد تختلف وقد تتشابه. وما نشهده اليوم من اختلاف وتشتت في عالمنا الإسلامي، نحتاج فيه العودة إلى إلى "27 يناير" لنجمع كلمتنا، ونخوض معارك الدفاع لتحرير أوطاننا وقدسنا السليب من الاحتلال.
قصة السابع والعشرين من يناير، يُلخصها شاب اسمه "عبد القادر الجزائري " لم يعترف بسيادة فرنسا على بلاده. كان حاكماً شجاعاً، يتقدّم الجيوش بنفسه، لم تجرأ القوات الفرنسية عل مواجهة جيشه مباشرة، فلجأت لسياسة تخريب المدن والقرى وحرق أراضٍ بمن فيها، للقضاء على "عبد القادر".
عندما تولى عبد القادر الإمارة كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية صعبة، لم يكن له المال الكافي لإقامة دعائم الدولة، بالإضافة لوجود معارضين لإمارته، إلا أنه لم يفقد الأمل، كان يدعو باستمرار إلى وحدة الصفوف وترك الخلافات الداخلية.
أدرك الأمير بأن وحدة الأمة هي الأساس للنهضة والانتصار في وجه الاستعمار، واجتهد في تحقيق ذلك رغم العراقيل التي تلقاها من بعض رؤساء القبائل والتي زاد عليها الاستعمار. كانت طريقة الأمير في تحقيق الوحدة هي الإقناع أولا والتذكير بمتطلبات الإيمان والجهاد.
عمد "الأمير" لإقامة حملات توعوية، بذل في سبيلها جهود كبيرة، لأن أكثر القبائل كانت قد اعتادت حياة الاستقلال ولم تألف الخضوع لسلطة مركزية قوية.
كان "عبد القادر" يمتلك إيمانا قوياً، ولما يمتاز به من صفات في القوة والشجاعة والشهامة انضمت إليه قبائل كثيرة بدون أن يطلق رصاصة واحدة، بل كانت بلاغته وحجته كافيتين ليفهم الناس أهدافه. عندما لم تنفع الكلمة، كان يتصدى لمن يخرج عن الوحدة أو من يساعد العدو في تفكيك المسلمين، وقد استصدر فتوى من العلماء تساعده في محاربة أعداء الدّين والوطن.
يوم السابع والعشرين من يناير 1832 انطلقت ثورة الأمير عبد القادر الجزائري لمقاومة الاحتلال الفرنسي للجزائر. بايعه رؤساء القبائل العربيّة سنة 1832 بعد أبيه، ولقّبوه بناصر الدين، فجمع كلمتهم، وخاض المعارك دفاعا عن استقلال المغرب العربي.
ولما تميز به الأمير من بطولة اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية هدنة معه وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأمير عبد القادر، وبذلك بدأ الأمير يتجه إلى أحوال البلاد ينظم شؤونها ويعمرها ويطورها. وقد نجح في تأمين بلاده إلى الدرجة التي عبر عنها مؤرخ فرنسي بقوله: «يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفردًا، على رأسه تاج من ذهب، دون أن يصيبه أذى!!».
كان الأمير قد أنشأ عاصمة متنقلة متطورة سميت آنذاك "الزمالة" و كان قد أسّس قبلها عاصمة بعد غزو الجيش الفرنسي لمدينة معسكر واحراقها، ولولا مطر غزير أرسله الله في هذا اليوم ما بقى فيها حجر على حجر، ولكن الأمير استطاع تحقيق مجموعة من الانتصارات دفعت فرنسا لتغيير القيادة من جديد ليأتي القائد الفرنسي الماكر الجنرال "بيجو".
وضع الأمير خطة تقضي بالانسحاب إلى أطراف الصحراء لإقامة آخر خطوطه الدفاعية وهناك شيد العاصمة الصحراوية "تكدمت". وبدأ العمل فيها بإقامة ثلاث حصون عسكرية، ثم أعقبها بالمباني والمرافق المدنية والمساجد الخ، وهناك وضع أموال الدولة التي أصبحت الآن في مأمن من غوائل الغزاة ومفاجآتهم، وقد جلب إليها الأمير سكانا من مختلف المناطق من الكلغوليين وسكان آرزيو ومستغانم ومسرغين والمدية.
وقبل أن يمر عام على الاتفاقية، نقض القائد الفرنسي الهدنة، وناصره في هذه المرة بعض القبائل, نادى الأمير في قومه بالجهاد ونظم صفوف القتال، وكانت المعارك الأولى رسالة قوية لفرنسا وخاصة موقعة "المقطع" حيث نزلت بالقوات الفرنسية هزائم قضت على قوتها الضاربة.
وفي منطقة "وادي تافنة" أجبر "عبد القادر" القائد الفرنسي على عقد معاهدة هدنة جديدة عُرفت باسم "معاهد تافنة" في عام 1837 م. وعاد لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع وتنظيم شؤون البلاد. وفي نفس الوقت كان القائد الفرنسي "بيجو" يستعد بجيوش جديدة، ليكرر الفرنسيون نقض المعاهدة في عام 1839 م.
لجأ الجنرال الفرنسي إلى سياسة الأرض المحروقة، فدمر المدن وأحرق المحاصيل وأهلك الدواب وقتل الاهالي. واستطاع أن يحقق عدة انتصارات على "عبد القادر"، قبل أن يدفعه إلى اللجوء إلى بلاد المغرب الأقصى.
هدد الفرنسيون السلطان المغربي، الذي لم يأبه لتهديدهم ، فساند الأمير في حركته. أقدم الفرنسيون على ضرب طنجة وبوغادور بالقنابل من البحر، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي اضطر السلطان إلى توقيع معاهدة "لالة مغنية" وطرد الأمير "عبدالقادر".
كان لتحييد المغرب ووقف مساعداته للمجاهدين الجزائريين دور كبير في إضعاف قوات الأمير عبد القادر، الأمر الذي حد من حركة قواته، ورجح كفة القوات الفرنسية.
ولما نفد ما لدى الأمير من إمكانيات لم يبق أمامه سوى الاستسلام حقناً لدماء من تبقى من المجاهدين والأهالي، وتجنيباً لهم من بطش الفرنسيين، وفي ديسمبر 1847 م اقتيد عبد القادر إلى أحد السجون بفرنسا، وفي بداية الخمسينات أفرج عنه شريطة ألا يعود إلى الجزائر، فسافر إلى تركيا ومنها إلى دمشق عام 1855 م.
لم يكن جهاد الأمير عبد القادر ضد قوى الاستعمار بالجزائر، هو كل رصيده الإنساني، فقد ترك العديد من المؤلفات القيمة ترجمت إلى عدة لغات، وعقب حصول الجزائر على الاستقلال تم نقل رفاته إلى الجزائر بعد حوالي قرن قضاه خارج بلاده، وفي 3 إبريل 2006 م افتتحت المفوضة السامية لحقوق الإنسان بجنيف معرضاً خاصاً للأمير في جنيف إحياءً لذكراه، كما شرعت سورية في ترميم وإعداد منزله في دمشق ليكون متحفاً يُجسد تجربته الجهادية من أجل استقلال بلاده.
أضيف بتاريخ :2016/01/28