ساعة القلب و’جنة الزهراء’
لم يكن أحد ليعلم بأن تلك الساعة المتناقضة بين سرعتها وبطئها، ستبقى في شريط الذكريات، لم ينظر لها أحد من المتواجدين بأنها تُنبأ بحدث كالصاعقة، ساد الهدوء المكان إلا من صوتها الممزوج بنبضات قلب تكاد تختفي.
في يوم 3 يونيو 1989م، كان الإحساس العام بأن خلف الهدوء عاصفة، اجتمع الأطباء، في محاولة منهم لإنعاش القلب، محاولات متكررة مرة بعد أخرى، ثمة قديس يرآه أتابع المسيح، وعالم روحاني ثوري يرآه المسلمون، وقائد أشعل الحق وقارع الظلم بثورة استثنائية.
خبر وجوده في المستشفى تناقله عامة الناس ليس في طهران فحسب، بل ليس في إيران وحدها، ذاك المذياع الموجود في كل البيوتات أذاع خبر تواجده في إحدى مستشفيات طهران، منذ سماع خبر مرضه، تعالت الأصوات بالدعاء.
عرفته عامة الشعوب مذ بدا نضاله العلني ضد الشاه عام 1962 م، وذلك حينما وقف بقوة ضد لائحة مجالس الأقاليم والولايات، التي كان محورها محاربة الإسلام، إذ أن المصادقة على هذه اللائحة من قِبل الحكومة آنذاك كانت تعني حذف الإسلام كشرط في المرشحين والناخبين، وكذلك القبول بحذف اليمين الدستورية بالقرآن.
بيد أنّ الإمام الخميني قام بمعارضة هذه اللائحة، ودعا المرجعية الدينية في الحوزات العلمية وأبناء الشعب للانتفاضة والثورة. وبسبب إرسال برقيات التهديد التي بعثها الخميني إلى رئيس الوزراء لذلك الوقت، وخطاباته ضد حكومة شاه، وتأييد المراجع الدينية لمواقفه، انطلقت المسيرات الشعبية الحاشدة في كلٍّ من مدينة قم وطهران و المدن الأخرى، مما اضطُر نظام الشاه إلى إلغاء اللائحة والتراجع عن مواقفه.
في عصر اليوم العاشر من شهر المحرّم عام 1383 هـ (3 يونيو1963 م) أشار الإمام الخميني عبر خطاب حماسي، إلى العلاقات السرّية القائمة بين الشاه وإسرائيل ومصالحهما المشتركة. وفي الساعة الثالثة بعد منتصف ليل اليوم التالي، حاصرت القوات الحكومية الخاصة بيته، وتم اعتقاله وإرساله مكبّلاً إلى طهران.
انتشر خبر اعتقال الإمام الخميني بسرعة في مختلف أنحاء إيران، وبمجرّد أن سمعت الجماهير خبر اعتقاله، نزلت إلى الشوارع منذ الساعات الأولى من فجر الخامس من حزيران 1963 م، وراحت تعبّر عن استنكارها لعمل الحكومة في تظاهرات حاشدة، أعظمها تظاهرة مدينة قم.
عرف نظام إيران بأن الجماهير غاضبة، لم يكن أمامه خيار غير مهاجمتها بالأسلحة الثقيلة، وكانت نتيجتها سقوط العديد من المتظاهرين مضرّجين بدمائهم. ومع إعلان نظام الشاه الأحكام العرفية في طهران، اشتد قمع التظاهرات في تلك الأيام، حيث قتلت وجرحت قوات الحكومة العسكرية الآلاف من المتظاهرين المدنيين الأبرياء.
كانت هذه المذبحة في نهاية القسوة و الشدة حتى أخذت أخبارها تتناقل وسائل الإعلام العالمية والمحلية، ونتيجة لضغط الرأي العام واعتراضات العلماء و الشعب، داخل البلاد وخارجها، إاضطر نظام الشاه إلى إطلاق سراح الإمام الخميني بعد عشرة أشهر تقريباً من المحاصرة والاعتقال، لتنتصر بعدها الثورة، سنة 1979 وحولت إيران من نظام ملكي، تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي، لتصبح جمهورية إسلامية عن طريق الاستفتاء.
ثمة انتصارات عدة حققها القائد قبل مرضه، وثورته التي أسسها مازالت فتية قوية، رغم الحصار المفروض على الدولة الإسلامية، لم يكتفِ بمقارعة الظلم في إيران، وقف مع حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان، وأعلن آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، يوم للقدس تحت مسمى "يوم القدس العالمي".
القائد الذي عرفته شعوب العالم بناصر المستضعفين ومحقق حلم الأنبياء والصالحين، لم تمهله تلك الساعة بالكثير من الوقت، أقام صلاة الفجر بمساعدة من معه رغم ألمه وتعبه، قبل القرآن وتلى بعض ماتيسر منه، ما إن اقتربت الساعة من العاشرة، حتى بدأت دقات قلبه تنخفض، اجتمعت النسوة من أهل بيته محيطة به، وابنه السيد أحمد الخميني يقف معهن، إلا أن قلبه أراد الرحيل بعد عمر شرفه الجهاد والعطاء.
وقع خبر رحيله كالصاعقة على الشعب الإيراني وباقي شعوب المنطقة، بل شعوب العالم، حضر تشييعه ملايين الأشخاص, من إيران وخارجها، حيث كان أكبر تشييع عرفته غينس في ذاك الوقت، أقيم له ضريح في مقبرة جنة الزهراء.
رحل "روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني" وما غاب، فثمة ثورة أسسها مازالت تسير على نهجه وخطاه، رحل عنها جسدا وبقى في قلبها، كشابة قوية يدفعها الحب الذي خطه وسلكه للبقاء ومقارعة الطغاة.
أضيف بتاريخ :2016/06/04