من الخليج إلى لبنان.. إرادة الحياة تتفوق على وحشية التكفير
نعيش عصر الإرهاب التكفيري الذي أنشأته "الوهابية" وتمددت أذرعه إلى كل العالم. ترجمته الفعلية هي تفجيرات تستهدف الأبرياء في المساجد والمناطق السكنية، وليس الصهاينة، العدو الحقيقي للأمة. تفجيرات عدة شهدتها السعودية والكويت في العام 2015، ليمتد الإرهاب مجدداً إلى لبنان خلال شهر "نوفمبر 2015 م"، بعد أن طرده في العام 2014. لم يحقق المخططون والداعمون لهذا الإرهاب أهدافهم، فلم ينجر المستهدفون إلى تصرفات عشوائية بل التزموا بالصبر والانضباطية، وتعززت إرداة الحياة لديهم. ولكن أتباع الفكر التكفيري لن يتوقفوا عن محاولة إثارة الفتنة بين المسلمين. هم لا يعرفون حرمة الأشهر الحرم ولا حرمة المساجد ولا حرمة المسلم نفسه، بل يحرِّمون أي فكر لا يتوافق ومعتقداتهم.
تنقلت التفجيرات الإرهابية بين السعودية والكويت ولبنان الذي شهد أعنف تفجيرين انتحاريين في شهر "نوفمبر 2015 م". ,وبالعودة للسعودية، ففي يوم الجمعة "23 مايو 2015 م" استهدف تفجير مسجد الإمام علي (ع) في بلدة القديح في القطيف أثناء صلاة الجمعة، وأدى إلى استشهاد 22 شخصاً. تبنى المسؤولية عن التفجير تنظيم "داعش" الإرهابي. وبعد أسبوع من "تفجير القديح"، في الدمام وفي يوم الجمعة "29 مايو 2015 م"، اشتبه شبان كانوا يحرسون مسجد الإمام الحسين (ع) في العنود بأحد الأشخاص كان يرتدي عباءة نسائية، وفور توجههم صوبه للتحقق من هوية الشخص، فجر الانتحاري نفسه، ما أدى إلى استشهاد ثلاثة أشخاص ومقتل الانتحاري بالقرب من بوابة المسجد. كما جرح ثلاثة أشخاص في التفجير.
ثم انتقلت موجة التفجيرات إلى الكويت في يوم الجمعة "26 يونيو 2015 م". تسلل انتحاري إلى داخل مسجد الإمام الصادق (ع) في حي الصوابر، وفجر حزامه الناسف فسقط إثر ذلك 27 شهيداً وجرح 227 شخصاً على الأقل. وعادت العمليات الإرهابية إلى السعودية في يوم "17 أكتوبر 2015 م"، إذ استشهد خمسة أشخاص وأصيب آخرون بجروح في هجوم إرهابي نفذه مسلح على "الحسينية الحيدرية" في سيهات في القطيف. هذه العملية الإرهابية تبناها تنظيم "داعش ـ ولاية البحرين".
وفي "26 أكتوبر 2015 م" تبنى تنظيم "داعش" تفجيراً نفذه انتحاري في مسجد في حي دحضة بمحافظة نجران جنوب السعودية، عند صلاة المغرب، استشهد فيه شخصان وأصيب عدد آخر بجروح. وبعد مرور أكثر من عام على توقف العمليات الإرهابية في لبنان، شهدت منطقة برج البراجنة في الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت تفجيرين نفذهما انتحاريَّين غروب يوم الجمعة "12 نوفمبر 2015 م"، وكانت حصيلة الضحايا 43 شهيداً و239 جريحاً.
ولم يكن العام 2014 خالياً من العمليات الإهاربية في السعودية حيث استهدفت حسينية في الأحساء أثناء إحياء ليلة العاشر من المحرم.
هدف الانتحاريين الإرهابيين ليس فقط قتل أكبر عدد من الناس بل إخافتهم أيضاً وجعلهم يعيشون في خوف داخل بيئتهم ومساجدهم ومجالسهم. لكن لا المساجد خلت من المصلين ولا المجالس توقفت، بل على العكس، برزت إرادة التحدي من الناس للإرهاب.
عقب التفجير الذي استهدف مسجد الإمام علي (ع) في القديح، هرع الناس إلى المسجد لتفقد من كان فيه وإسعاف الجرحى، هتف أحدهم "الشهادة الشهادة"، ثم قال آخر "هيهات منا الذلة". العاطفة والبكاء على الأحبة كان حاضراً في تشييع شهداء هذا التفجير، كأي رد فعل إنساني في مثل هذه المواقف، من دون الانجرار إلى تصرفات يريدها من يقف خلف الإرهابيين. بل كتب على إحدى اللافتات خلال التشييع عبارة "الإرهاب يستهدف أبناء الوطن".
هذا السلوك الراقي تمثل أيضاً في رد فعل الحاضرين في مسجد الإمام الحسين (ع)، الذين كانوا يستمعون إلى محاضرة دينية، إذ علت أصوات الله أكبر والصلاة على النبي محمد وآله حينما سمعوا صوت التفجير الذي وقع عند الباب المؤدي إلى المسجد. توجه بعضهم إلى المكان لتفقد الحال، فيما بقي الآخرون في المسجد. قبل حصول التفجير، أظهر شريط فيديو سجلته كاميرا مراقبة باب المسجد، الإرهابي المتنكر بزي نسائي، وأظهرت شجاعة أحد الشبان الذي اشتبه في هويته ولحقه ثم دوى الانفجار، فساهم ذلك الشاب بتخفيف أعداد الضحايا خلال محاولته القبض على الإرهابي الذي فجر حزامه الناسف في تلك اللحظة.
شاركت جموع مليونية في تشييع الشهداء في مسيرة منظمة تخللتها شعارات "لن نركع إلا الله" ولافتات عليها كتابات تندد بالفكر التكفيري. ولتأبين الشهداء، أقامت اللجنة التنظيمية النسائية لشهداء التفجير في جامع الإمام الحسين (ع) مجلس عزاء وتهنئة ﻷسر الشهداء بحضور أهالي الشهداء وحشود غفيرة، وألقت السيدة أم عباس النمر كلمة في أحد المجالس أكدت فيها على تجذّر مفهموم الشهداء وعظمة الشهداء، وقالت إنّ "الحادثة إنْ حوت بعداً مأساوياً فإنها تفتح لنا باباً للتفاؤل والأمل لهداية الشباب، وهذا سبب من أسباب السعادة والغبطة وأول المغبوطين هم الشهداء ومن ثم أمهاتهم".
ثم أقيم في يوم الأربعاء "1 يونيو 2015" حفلاً تأبينيا موحداً لشهداء لشهداء مسجدي الإمام علي (ع) في القديح، والحسين (ع) في العنود في صالة الملك في القديح ضمن فعاليات أقيمت على مدى ثلاثة أيام في القديح. وتضمنت الفعاليات معرضاً فنياً تمجيدا للشهداء تحت عنوان "شاهد وشهيد".
وعقب حدوث التفجير في مسجد الإمام الصادق (ع) في الكويت حضر أمير الكويت جابر الأحمد الصباح لتفقد مكان التفجير. وكان تشييع الشهداء مهيباً وبمشاركة رسمية من رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم وأعضاء في المجلس وسفراء دول عربية وأجنبية في شهر رمضان الذي قضى فيه هؤلاء الشهداء، في أجواء عكست التضامن الوطني في هذه الحادثة الأليمة. وحمل الكويتيون الورود إلى مسجد مسجد الصادق (ع) حيث أقيمت فعالية تحت عنوان "إحنا لها" تأبيناً للشهداء ورفضا لرسائل الإرهاب والدمار.
إنه شهر محرم الحرام، حيث كان يقام مجلس عاشورائي في "الحسينية الحيدرية" في سيهات التي تعرضت لهجوم مسلح. في محيط الحسينية كانت هناك طفل يبحث عن أبيه، تلقاه أحدهم وسأله "أين أبوك؟"، فقال "هنا"، يعني أنه في المسجد أو محيطه، ثم أخذ الرجل بيده ليبعده عن مكان الهجوم وهو يسأل الرجل عن أبيه قائلاً "ما أبيه يموت؟"، أجابه "ما يموت". آلاف من المواطنين شاركوا في تشييع الشهداء وهتفوا ضد الإرهاب والفكر التكفيري المتمثل في "داعش".
وإلى جانب حفلات التأبين التي أقيمت لشهداء "الحسينية الحيدرية"، ازداد أعداد المتقاطرين إليها بعد حادثة التفجير وفقا لما أعلنه أعضاء اللجنة التنظيمية القائمة، في سلوك يدل على الإصرار على تحدي الإرهاب، والإرادة على الصمود والاستمرار.
وفي لبنان، كانت منطقة "برج البراجنة" في الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، على موعد مع تفجيرين انتحاريين مساء يوم الخميس "12 نوفمبر 2015 م". وقع أول تفجير انتحاري حاول منفّذه الدخول إلى مسجد الإمام الحسين (ع) في المنطقة، إلا أن الشهيد عادل ترمس انقض عليه ومنعه من ذلك، وكان سبباً في منع حدوث مجزرة. وإثر وقوع التفجير تجمع الناس في المنطقة لإسعاف الجرحى وإنقاذ من يمكن إنقاذه منهم، فقام انتحاري آخر بتفجير نفسه وسط الجموع ما أدى إلى ارتفاع أعداد الضحايا بين شهيد وجريح.
مشهد مئات الأشخاص واقفين غير آبهين باحتمال استهداف المكان مجدداً بدا كرد مباشر على رسالة الإرهاب. الصورة واضحة. هو الإرهاب نفسه من السعودية إلى الكويت فلبنان، يقف ورائه تنظيم الإرهاب "داعش" الذي يستند إلى فكر وهابي يكفِّر كل من عداه ويحل دمه. يعتقد معتنقو هذا الفكر أنهم يرهبون من يعتبرونهم "كفاراً" عبر القتل والذبح والتفجير، بأسلوب وحشي أشبه بجاهلية متجددة. وما يبعث على الأسى هو بعض وسائل الإعلام المتعاطفة مع هذا الفكر والمروجة له والتي تلعب دوراً تحريضياً في الأمة. لن ينتهي هذا الإرهاب ما لم يتم القضاء على مصادره الفكرية والتمويلية.
تتعدد تفاصيل كل حادث إرهابي من الخليج إلى لبنان، ولكم المشترك بينهما أن للحياة إرادة يصنعها أهل البلاد.
أضيف بتاريخ :2015/11/17