الإمبراطورية التي حرقتها الشمس
عبد الله بو حبيب ..
في عصر يتجه العالم الى وحدات اقتصادية أكبر وأكبر، والى وحدات سياسية أصغر وأصغر، ارتأى الإنكليز أن ينفصلوا عن وحدة قارتهم الاقتصادية، الاتحاد الأوروبي. إنكلترا، الشريك الأكبر في المملكة المتحدة أو بريطانيا العظمى، تواجه اليوم مشاكل وأزمات عدة، ليس مع دول الاتحاد الأوروبي فحسب، إنما أيضا مع شريكتيها في المملكة المتحدة وهما إسكتلندا وشمال ايرلندا، اللتان اقترع معظم شعبيهما، كما العاصمة لندن، لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي.
يجدر التنويه أن سكان بريطانيا البالغ عددهم حوالي 65 مليون نسمة هم في أكثريتهم الساحقة (حوالي 46 مليوناً) إنكليز. يبلغ عدد سكان إسكتلندا حوالي 5,5 ملايين نسمة، وويلز ثلاثة ملايين، وشمال ايرلندا حوالي المليونين، ولندن حوالي 8,5 مليون نسمة. كما يقدر حوالي 20 في المئة من سكان المملكة المتحدة من أصول غير بريطانية مقارنة بـ40 في المئة في لندن. كذلك، هناك 4,5 ملايين بريطاني منتشرين حول العالم، منهم 1,3 مليون في الاتحاد الأوروبي، خصوصاً في دوله الجنوبية (المتوسطية).
من الناحية الاقتصادية، بلغ إجمالي المدخول المحلي لبريطانيا في العام 2015 حوالي 2,8 تريليون دولار (مقارنة بـ3,4 تريليون دولار لألمانيا)، منها حوالي 332 مليار دولار لإسكتلندا و83 ملياراً لايرلندا الشمالية، وحوالي 2,4 تريليون لإنكلترا ولندن وويلز.
في العودة إلى الانفصال عن أوروبا، قد يعود السبب الى النزعة الإنكليزية التاريخية الاستقلالية عن أوروبا، أو الاستياء من الطبقة السياسية الحاكمة والأحزاب التقليدية التي تتداول السلطة منذ قرن ونيف، أو إلى العدد الكبير من الأجانب خصوصا من أوروبا الشرقية التي تضغط بقوة على قطاعات السكن والتربية والصحة، بالإضافة إلى الخوف من دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي الأمر الذي يسرّع في هجرة الأتراك وغيرهم من الشرق الأوسط إلى إنكلترا. من دون شك، كان لإعلام قيادات «بريكزت» غير الدقيق، المبني على تخويف الإنكليز من الأجانب، دور مهم في النتائج النهائية للاستفتاء.
لكن يبدو واضحاً أن الإنكليز لم يفهموا جيداً سلبيات عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وإيجابياتها، كما أعلنت مؤسسة غوغل (Google) أن عدداً هائلاً من الإنكليز تواصلوا مع موقعها الإلكتروني في اليوم التالي للاستفتاء يستفسرون عن الاتحاد الأوروبي!
بريطانيا اليوم جزء من الاتحاد الأوروبي، ولذلك فإن معظم علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول العالم والكتل الاقتصادية فيه، تمرّ في معظمها من خلال الاتحاد، ومن ثم على الحكومة البريطانية المقبلة التفاوض مع الاتحاد للخروج منه والاتفاق على علاقات جديدة معه، فضلا عن التفاوض مع دول العالم الأخرى للاتفاق على علاقات ومعاهدات. لكن الوصول الى هذه المعاهدات يحتاج إلى سنوات من المفاوضات كما أن بريطانيا ستفاوض من منطلق أضعف مما كانت عليه عند دخولها الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أنها تفاوض تكتلات سكانية ودولاً كبيرة، علما أنه ليس لإدارتها الخبرة الكافية في مفاوضات كهذه، إذ أنها عندما دخلت الاتحاد الأوروبي في العام 1973 كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
يمكن التكهّن من خلال ردود الفعل الأوروبية أن المفاوضات ستكون طويلة وعسيرة ومكلفة، ومن ثم فإن الثقة بالاقتصاد البريطاني والاستقرار المالي والنقدي ستكون ضعيفة خلال تلك الفترة، ما قد يؤثر سلباً على مستوى الاستثمارات الأجنبية في المملكة المتحدة، وبالأخص أن الأسواق المالية الدولية استعادت عافيتها بعد استفتاء الـ «بريكزت» وأسواق لندن ما زالت تواجه الصعوبات.
وبرغم أن السبب الرئيسي للاقتراع لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي كان بسبب إصرار الأخير على إتباع سياسة ليبرالية إزاء حرية الانتقال بين دوله، يبدو أن هذه القضية ستبقى مطلباً أساسياً للاتحاد في حال طلبت بريطانيا أن تكون في مصاف الدول الأكثر تفضيلاً.
لكن المفاوضات في هذه القضايا لن تبدأ قبل مطلع العام المقبل، وبريطانيا تواجه اليوم أزمات داخلية ضمن أحزابها وبين ولاياتها. حزبا المحافظين والعمال يواجهان اختيار قياديتين جديدتين، ومن ثم تشكيل المحافظين حكومة جديدة، وحكومة ظل لحزب العمال المعارض.
كما أبرز الاستفتاء مشكلة استمرار وحدة المملكة المتحدة. فبعد الاستفتاء مباشرة، قصدت رئيسة وزراء إسكتلندا عاصمة الاتحاد الأوروبي، بروكسل، للبحث في إمكان بقاء إسكتلندا في الشراكة الأوروبية. وبرغم معارضة بعض دول الاتحاد لذلك، ثمة إمكانية لإجراء استفتاء إسكتلندي جديد من أجل الانفصال عن بريطانيا. يشمل هذا الأمر ولاية شمال ايرلندا التي لها اليوم حدود مفتوحة مع جمهورية ايرلندا وها هي حكومتها تبدأ مفاوضات مع جمهورية ايرلندا لإبقاء العلاقات بينهما من دون تغيير.
إلى ما سبق، لم تكن بريطانيا أصلاً، كغيرها من الدول الأوروبية، متحمسة للاتحاد. دخلت السوق الأوروبية بعد عقدين من تأسيسه ولم تدخل منطقتي الـ «يورو» والـ «شنغن» الأساسيتين للتكامل الأوروبي. الدول الست المؤسسة ملتزمة بالاتحاد، ودول وسط أوروبا وشرقها متمسكة بالاتحاد لأنه ضمانة نظامها الديموقراطي واستقلالها وسيادتها بعدما خرجت من نير الاتحاد السوفياتي السابق. كذلك اسبانيا والبرتغال اللتان ساعدهما الاتحاد على الانتقال من الديكتاتوريه الفاشية إلى الديموقراطيّة، ومن الفقر إلى البحبوحة الاقتصادية.
باختصار، لن يكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بلغ عدد سكانه بِحَسَب إحصاءات العام 2015، أكثر من 5,8 ملايين نسمة وإجمالي مدخوله المحلي حوالي 16,2 تريليون دولار) تأثير مهم على الاقتصاديات الأوروبية، إنما تأثير سلبي على المملكة المتحدة ووحدتها السياسية، ناهيك باقتصادها، خاصة أن 45 في المئة مَن صادراتها تذهب إلى الاتحاد الأوروبي.
صحيفة السفير اللبنانية
أضيف بتاريخ :2016/07/06