انقلابٌ جديدٌ في تركيا
قاسم حسين ..
الانقلاب الجديد الجاري حالياً في تركيا بشأن علاقاتها مع دول الجوار، أخطر وأبعد أثراً من الانقلاب الذي قاده الجيش للإطاحة بحكم رجب طيب أردوغان منتصف الشهر الماضي.
ما يجري انقلابٌ كبيرٌ في سياسات تركيا التي تبنتها قبل خمسة أعوام، خصوصاً موقفها المتشدّد ضد نظام بشار الأسد في سورية. وإذا كانت نتيجة الانقلاب العسكري داخلياً، تشديد قبضة أردوغان وحزبه على مفاصل الدولة، وإضعاف نفوذ الجيش، فإن نتيجة التغييرات خارجياً أكبر وأخطر، لتأثيرها على مستقبل شعوب المنطقة، خصوصاً تلك الدول التي تورّطت تركيا في تأجيج صراعاتها الداخلية، بتدخلها كطرفٍ فاعلٍ على أراضيها، مثل العراق وسورية.
طوال الأسبوع الماضي، كانت هناك سيولةٌ شديدةٌ في الموقف التركي، اتخذت مسارين اثنين: المسار الأول باتجاه تعقيد علاقاتها مع حلفائها التقليديين، كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية؛ والمسار الثاني باتجاه إعادة تحسين علاقاتها بدول المحور الآخر، مثل روسيا وإيران.
الانقلاب الجديد بدأ مع استبدال مهندس السياسة التركية ورئيس الوزراء السابق داوود أوغلو، بخلفه بن علي يلدريم، الذي ألمح إلى التغييرات الجديدة في السياسة التركية، باتجاهها نحو مصر وسورية و"إسرائيل". وربما كانت أحد الأسباب الرئيسية للتعجيل بالانقلاب الذي كان الأميركيون يلمّحون بوقوعه منذ أشهر. وكانت المفاجأة أن الأميركيين والأوروبيين كانت قلوبهم مع الانقلاب، بينما كانت المفاجأة الأخرى أن المحور الآخر -الروس والإيرانيين- كانوا أول من أدان الانقلاب. بل إن بعض التقارير ذهبت إلى أن الروس لعبوا دوراً مهماً في إفشال الانقلاب حين زوّدوا الحكومة التركية بمعلوماتٍ قبل ساعات من انطلاقه.
طوال الأسبوعين الأولين من الانقلاب، كانت هناك حالة صدام بين الجانبين التركي من جانب، والأميركي والأوروبي من جانب آخر، تحت عنوان احترام حقوق الإنسان واستعادة فتح الله غولن، الذي تتهمه أنقرة بأنه الرأس المدبّر للانقلاب. أمّا في الأسبوع الماضي، فبدأنا نشهد تحوُّلاتٍ كبرى في الموقف التركي باتجاه المحور الآخر، بما يمثل انعطافةً حادةً سيكون لها آثارها الكبيرة في إعادة توازنات القوى وتخفيف أو تعميق التحالفات.
كثيرون منا، نحن العرب، مازالوا غير مصدّقين لهذه التحوّلات التركية، وبسبب عنصر المفاجأة، نحتاج إلى فترةٍ من الوقت حتى نستوعبها. والسبب أننا نظن السياسة خطباً حماسية وعواطف، فلا ندرك اتجاه الريح إلا بعد هبوبها. لكن الأقوام الآخرين من حولنا، روساً كانوا أو أتراكاً أو إيرانيين، أو هنوداً وباكستانيين، يفكّرون بمصالحهم العليا، فالتركي الذي استغل قضية غزة خمسة أعوام، تخلّى عنها من أجل تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، ولحس مواقفه وشروطه السابقة، بضرورة رفع الحصار والاعتذار لقتل مواطنيه الأتراك.
اليوم نصحو على مشهدٍ يُعاد فيه رسم علاقات جديدة، بين دول وقوى متنافرة أو متنافسة، ويجري الاتفاق المبدئي على ضرورة إيجاد حلٍّ بينهم لأعقد مشكلةٍ سمّمت العلاقات وكادت أن تدفع بهم نحو المواجهة الشاملة. فالموضوع السوري الذي كان بؤرةَ الخلاف بين الأتراك والروس والإيرانيين لأكثر من خمس سنين، أصبح الأسبوع الماضي موضوع نقاشهم الأساسي، حيث تتوالى التصريحات التي قد تنتهي بالصلاة جماعةً في الجامع الأموي بالعاصمة السورية دمشق.
بعض شواهد الانقلاب الجديد في تركيا، والسيولة الشديدة في الموقف التركي، ضمن تطورات هذا الأسبوع وحده، ما قاله بن علي يلدريم: سنشهد تطورات جميلة في سورية؛ شاويش أوغلو داعياً موسكو إلى عمليات مشتركة ضد "داعش": من الآن فصاعداً ستنضم تركيا إلى العمليات ضد "داعش" بطائرات حربية؛ السفير التركي في موسكو: يجب إيجاد حلٍّ سريع للأزمة السورية مع الحفاظ على وحدة الأراضي السورية والحفاظ على هيكليتها السياسية؛ إلى جانب ما يجري من مباحثات روسية تركية في موسكو لإقفال الحدود التركية مع سورية من أجل قطع الإمدادات عن تنظيم "داعش".
بعد خمسة أعوام ونصف العام على الأزمة السورية، بدأت تتغيّر قواعد اللعبة التي عرفناها. علينا أن نحاول استيعاب ما يجري، ونحن نشاهد بداية إرهاصات الانقلاب الجديد في تركيا... انقلاب أردوغان على أردوغان!
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/08/14