الحرث العُماني والحصاد العربي
تابع كثيرون التحرك الدبلوماسي العُماني في المنطقة أخيراً وبالتحديد في سورية. فقد زار الوزير المسئول عن الشئون الخارجية العُماني يوسف بن علوي العاصمة السورية دمشق في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 في زيارة مفاجئة واجتمع بالرئيس السوري بشار الأسد وبنائب رئيس الوزراء وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم، مؤكداً من هناك حرص «بلاده على وحدة سورية واستقرارها»، وأن مسقط «مستمرة في بذل كل مسعى ممكن للمساعدة في إيجاد حل ينهي الأزمة في سورية».
الحقيقة أنه من الصعب التكهن بتفاصيل الدور العُماني الذي يساهم في حلحلة الأزمة السورية، وهو الدور الذي عادة ما يأخذ جانب الحذر في أن يلقي الإعلام بضوئه عليه (خشية أن يبور أو يُكيَّف بطريقة ما) كما كان ديدن العُمانيين في السابق، لذلك فهم يتكتمون عليه خوفاً من أيّ لقلقة لسان أو حتى هَسْهَسَة في آذان، لكنه بالتأكيد دور إيجابي تضمنه الحكمة العُمانية وعلاقات السلطنة الجيدة مع الجميع، وبالتالي فهي الأقدر على تبريد النار وتشتيت دخانها، وكَنْسِ رمادها.
لذلك، فإن المسئولية اليوم باعتقادي هي أن تُقال كلمة «تنبيه وتبيين» لذلك الجهد وليس كلمة «تحليل وتعليق». ففي أحيان كثيرة، يشرد التفسير بنا إلى متاهات بدافع الخيال الواسع، لذلك تبقى الكلمة المُبيِّنة المُنبِّهة، التي تُوقظ فينا الحس الذي يُرجعنا إلى ذواتنا هي الأهم. فلربما أصبح هذا التبيين والتنبيه هو حاجتنا الماسة اليوم. فـ «إنَّ الفِتنَةَ إذا أقبَلَت شَبَّهَت وإذا أدبَرَت بيَّنت» وما أكثر الفتن في زماننا، والتي بدأت تُظهِر لنا كم شُبِّه لنا في معمعمة الصراخ وفي ساحات الصراع.
لذا أقول: إنني وخلال متابعتي لتلك الجولات والخطوات العُمانية تذكرت رئيسة الوزراء الهندية الراحلة أنديرا غاندي (1917م - 1984م) عندما قالت في إحدى المرات: «يجب أن تتعلم أن تكون راسياً (ثابتاً) في خضم الحركة وأن تنبض بالحياة وسط السكون».
هذا القول البليغ هو ما يُناسب السلوك العُماني في السياسة والدبلوماسية اليوم. ففي خضمّ الأحداث وزوابع الحال يثبتُ العُمانيون في كل مرة أنهم ثابتون على مبادئ السلم وتجسير العلاقات المحطَّمة. وفي الوقت الذي يُخيِّم فيه سكون اليأس جرَّاء الصراع والحرب والدمار تراهم ينبضون بالحياة، ويُخرجون من بين خبب خيول الحرب ودَمِ مرارتها حلولاً وسلاماً تأمله الشعوب بفطرتها.
دعونا نفكِّر مليّاً. فكل جهد دبلوماسي يؤدي إلى تقليص الحرب يوماً واحداً بل وحتى ساعة واحدة هو عمل جبَّار في ميزان الألم، أتعلمون لماذا؟ لأن ذلك اليوم وتلك الساعة، من شأنه (أو شأنها) أن يحفظا أرواح 500 شخص كان يمكن أن يُقتلوا في صراع تلك الساعة أو ذلك اليوم. تلك السويعات التي تُلجَم فيها الحرب بالدبلوماسية من شأنها أن تُحفظ مبانٍ شيَّد أصحابها طوبها لَبِنَة لَبِنَة. وعندما يُحفظ الإنسان، ويُحفظ المسكن، تُعمَر الأرض، وعندما تُعمَر الأرض يزدهر الإنسان ويعيش في أمن وسلام وسعادة. ولو قسنا ذلك على التاريخ لوجدنا أن ذلك صحيحاً تماماً.
لنا أن نتخيَّل لو أن الألمان والفرنسيين توصلوا إلى سلام قبل الحادي والعشرين من فبراير سنة 1916م فهل كانت معركة فيردان ستندلع؟! وهل كان ضرورياً أن يتعارك الطرفان أحد عشر شهراً من القتال الضاري، ويُقتل سبعون ألف فرنسي وأعداد أخرى من الألمان بسبب ملايين القذائف؟! لو عاش السبعون ألفاً لكان يمكن أن يظهر منهم عشرة آلاف عالم ومبدع ومتعلم، ولتغيَّرت صورة باريس ونظرة الفرنسيين إلى الألمان، ولما كانت أصلاً سبباً لعداء امتدّ حتى الحرب الكونية الثانية!
قبيل الحرب العالمية الأولى (1914م - 1918م) كانت البلقان هي «برميل البارود الأوربي» كما سمَّاها أحد المؤرخين، والتي أشعلت الحرب آنذاك، واليوم، تعتبر منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد شمال وجنوب غرب قارة آسيا حيث سورية ومحيطها برميل البارود العالمي كله. اليوم، تُسبِّب الأزمة السورية ضعف اللاجئين الذين ظهروا خلال الحرب الكونية! وباتت جحافل الإرهابيين (بسببها) تتحرك في ثمانين دولة في العالم، وأصحبت أكثر من ستين دول متورطة فيها بطريقة أو بأخرى.
لا يعتقد أحد بأن آلة الحرب يُمكن أن تضع أوراقاً جيدة على الطاولة، ليفرض أصحابها شروطاً ما، أو أنهم قادرون على حصر دمارها هنا دون هناك، فـ فكتور أدلر زعيم الديمقراطيين الاجتماعيين في امبراطورية الهابيسبيرغ لم يكن يرى بأن حرباً عامة ستندلع وتُفضي بدولته إلى التفكك سنة 1919م بعد 600 عام من حكم أباطرة الهابسبورغ للنمسا والمجر وكرواتيا وبوهيميا ودول أخرى.
ولم يكن جنرالات الامبراطور وليام يُدركون خطورة نصيحتهم له من أن حصر الحرب في أوروبا الشرقية وعدم مهاجمة فرنسا وروسيا هو أمر غير ممكن (كما ذُكِر)، ليروا لاحقاً أن الدمار الذي أرادوه قد جعلهم يخسرون مليونين من أصل سبعة ملايين إنسان ماتوا في تلك الحرب المدمِّرة. هذه ضريبة طبيعية للحروب، ولو أن أوروبا لم تدخل حرباً كهذه، لكان تطورها متقدم بثمانين سنة إلى الأمام عما هي عليه الآن. وحين نُسقِط ذلك على ما جرى ويجري في سورية فإن المثال يحضرنا فوراً.
اليوم، نحن لا نريد لمنطقتنا أن تُكرِّر ذات التجربة السيئة في الحروب والصراعات. على الجميع أن يعلموا بأن العقل والحكمة هي أمضى من أيّ سلاح وقعقعة. والعمُانيون يقومون بدورٍ دبلوماسي عاقل وحكيم تتمناه شعوب هذه الطامحة للعيش بأمان، عبر محراك سياسي يُبعدون به النار كي تخمد، وألًا يهيم السوريون على وجوههم في الفيافي والبحار، وأن تعود الشام أرضاً جامعة لهم. في المحصلة، العُمانيون يحرثون السلام كي يحصد ثماره العرب. ويا له من ثمر طيّب في ظل جائحة الجوع.
محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2015/10/31