هل يتشكل تحالف إقليمي دولي ضد «داعش» وأخواتها
عبدالنبي العكري
ظاهرة الإرهاب المنظم قديمة في التاريخ، وشهدتها مختلف الحضارات والأمم ذات الديانات المختلفة فقد كان هناك حركة البوكسر في الصين الكونفوشوسية وحركة الفرسان في اليابان البوذية، وحركة الكوكيرز في أوروبا المسيحية والخوارج في الدولة الأموية والحشاشون في الدولة العباسية الإسلامية، ولقد ترافقت حروب التحرير الوطني بظهور تنظيمات إرهابية من الطرفين، فقد شهدت الجزائر مثلاً تنظيماً إرهابياً فرنسياً، الجيش السري من المتطرفين، الفرنسيون في الجزائر، فيما تعتبر بريطانيا جيش التحرير الايرلندي تنظيماً إرهابياً.
وخلال مرحلة المد اليساري في الستينيات ظهرت تنظيمات متطرفة اعتبرت إرهابية من قبل الدول، وثورية من قبل أنصارها، مثل الجيش السري الأرمني، الجيش السري الياباني، والجيش الأحمر الإيطالي، وبادر مانهوف الألمانية، والطريق المضيء في كولمبيا، ونذكر هنا أيضاً حركة التاميل في سيرلانكا. لكنه ولأول مرة في العصر الحديث، فقد تمكنت حركة طالبان الإسلامية الأصولية المتطرفة من إقامة دولتها في أفغانستان، وتوجهت لإقامة دولتها الأخرى في باكستان، وقد تتبعها دول أخرى. وقد أفرزت دولة طالبان تنظيم «القاعدة» الأممي الذي اتخذ من أفغانستان قاعدة له، وأقام تنظيمات سرية، أو شبه علنية في العديد من البلدان الإسلامية من المغرب حتى آسيا الوسطى أضحى معروفاً أن الغرب في سياق صراعه مع الاتحاد السوفياتي، قد دعم حركة «طالبان» وحث حلفاؤه من الدول الإسلامية ومنها الدول العربية على دعم «طالبان» في حربها ضد السوفيات وحليفهم نظام كابول اليساري تحت يافطة تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي والحكم الكافر.
وبالفعل فقد نجح التحالف الغربي الإسلامي في إجبار السوفيات على الانسحاب، وإسقاط النظام اليساري وكان أحد أسباب تفكك الاتحاد السوفياتي ذاته، وإقامة نظام يميني إسلامي موالٍ للغرب، سرعان، ما أسقط على يد طالبان الأكثر تطرفاً، والذي تعرض للعزل الدولي. وبالمقابل نشط تنظيم «طالبان» في حوار أفغانستان، فيما تولت تنظيم القاعدة، الانتقال من العمل الدعوى الى العمليات الإرهابية ضد الولايات المتحدة وحلفائها في انقلاب استراتيجي في التحالفات والمسارات.
ومن الواضح أن المنطلقات العقائدية لكل من طالبان والقاعدة، هي التفسيرات المتطرفة والظلامية للدين الإسلامي من قبل فقهاء الظلام منذ العهد العباسي حتى اليوم ومن الواضح أيضاً أن أتباع القاعدة وغيرها من التنظيمات الإسلاموية المتطرفة هم نتاج ثقافة متأصلة، وفكر ظلامي، من خلال مناهج تربوية، وأجهزتها دعوية، وإعلامية وتنفذها الحكومات بمختلف وزاراتها، في تحالف جهنمي بين الجهات الرسمية وهذه الاتجاهات والتنظيمات أو ما يعرّفه العالم العراقي علي الوردي التحالف بين الحاكم والفقيه، أو الحاكم والداعية.
وكما يحدث في العديد من الاتجاهات والتنظيمات الايدلوجية المتطرفة يسارية أو يمنية أو إسلاموية أو غيرها، فقد تهيأت الظروف في العراق وسورية وفي خضم الحرب الأهلية إلى بروز تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق أو (IISS) والذي أقام بالفعل دولته على ما لا يقل عن ثلث مساحة سورية والعراق، وأمام الانتصارات التي حققها استكمال معظم قواعد القاعدة وتنظيمات إرهابية أخرى. من هنا أضحى أكثر طموحاً بحيث تبنى إستراتيجية إقامة الدولة الإسلامية انطلاقاً بها من سورية والعراق، على امتداد العالم الإسلامي من تركستان الصين حتى الأندلس في إسبانيا. ولم يكن ممكناً إقامة دولة «داعش» في العراق وسورية ليتم دون حاضنة مجتمعية، وتأييد القطاعات المهمة في الدول العربية والإسلامية خصوصاً، وتحظى بدعم رسمي، وبالطبع دون دعم من قبل 40 دولة كما حددها بوتين في قمة العشرين في أنطاليا بتركيا، قدمت الأسلحة والمعدات العسكرية، وسهّلت تطوع أبنائها والتحاقهم بـ «داعش»، أو تغاضت عن حملات دعوية وتعبوية وجمع تبرعات لـ «داعش» وأخواتها.
وهذا يعيد فصول دعم قيام دولة إسرائيل العنصرية ومساندتها حتى الآن. وبالنسبة للغرب (باستثناء إسكندنافيا وبعض دول أوروبا) فقد كان متواطئاً في كل ذلك من خلال عقد صفقات السلاح مع الدول الراعية، والسماح بتطوع أبنائه والتغاضي عن تنظيمات ونشاطات ودعوات متطرفة في بلدانها بارتباط مع التنظيمات الأم. وتأمين مظلّة سياسية دولية، بمعاداة نظامَي العراق وسورية، وطرح الصراع كونه صراعاً أهلياً، يقتضي حلاً تفاوضياً بين التنظيمات المتطرفة والأنظمة الحاكمة، مع تحميل الأنظمة الحاكمة المسئولية الأولى فيما انزلقت إليه بلدان مثل العراق وسورية واليمن وليبيا من حروب أهلية.
لكن المنطقي بالنسبة لـ «داعش» وتنظيمات متطرفة أخرى مثل المرابطين في بلاد المغرب العربي، وحزب التحرير الإسلامي، هو أن الحرب ضد «الكفرة» لا تتجزأ. ولذا بعد أن طبقوا شريعة الغاب على أبناء المنطقة العربية الإسلامية بمختلف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم، كان لابد من استهداف الغربيين «الكفرة» أولاً في البلاد العربية والإسلامية كما حدث في أكثر من ساحة، ثم استهدافهم في بلدانهم وعواصمهم مباشرة.
لقد جاءت عمليتا الطائرة الروسية ثم عملية باريس الإرهابيتان لتفيض الكأس كما يقال فقد سبقتهما عمليات أصغر، ولتستنفر العالم المتقدم، بأن العدو موجود بيننا وأن أبناءنا هم جنوده.
لقد طرح الغرب بقيادة الولايات المتحدة إستراتيجيته لاحتواء «داعش» ولكن ليس تصفيتها، وكذلك بدون التعرض لأخوات «داعش» من التنظيمات المتطرفة النشطة ليس فقط في سورية والعراق بل العديد من الدول العربية والإسلامية.وكان واضحاً أن هذا التحالف الدولي يدير صراعاً لإنهاك الطرفين نظامي سورية والعراق من ناحية، و«داعش» وأخواتها من ناحية أخرى حتى يستسلم الطرفان لإرادته وإقامة صيغة حكم ملحقة به.
لكن التدخل العسكري الروسي في سورية، وما ترتب عليه من كارثة الطائرة الروسية وعملية باريس الدموية الرهيبة، أحدثت صدمة في الشارع الغربي وبالطبع في أوساط النخب السياسية والمجتمعية، وتحدياً كبيراً للحكومات الغربية وأحلافها.
إننا نشهد اليوم صحوة ضمير في الغرب حيث يتوالى مسئولون عسكريون واستخبارتيون وأمنيون سابقون بل حتى مسئولون حاليون وبالطبع النخب، في كشف الجريمة الكبرى لأنظمتهم في رعاية ودعم التنظيمات الإرهابية، حتى وصل السرطان إلى الجسم الأوروبي وسيتبعه للجسم الأميركي، هناك إذاً معسكران ذوا رؤيتين مختلفتين، المعسكر الذي تقوده روسيا ويضم إيران وسورية وحلفاءهما دولاً ومنظمات، والتي تطرح ضرورة قيام تحالف دولي ضد «داعش» وأخواتها من المنظمات الإرهابية والتكفيرية لاستئصالهم وليس احتوائهم، وهذا يتطلب من الدول التي تموّل وترعى أو تتهاون مع «داعش» وأخواتها التوقف فوراً والتعاون في استئصال الشبكات الموجودة على أراضيها، والتعاون الصادق في الحرب ضد «داعش» وأخواتها.
وبالطبع لا يصل سقف هذا إلى طرح ضرورة إقامة البديل الديمقراطي للأنظمة الاستبدادية وتغييرات جوهرية في المجتمع وثقافته، والدولة وعقيدتها ومؤسساتها بحيث تنتفي الحاضنة للفكر والتنظيمات الظلامية.
المعسكر الثاني وتقوده أميركا وحلفاؤها والذي يحصر الحرب على «داعش» في حين أنه لا يشمل أخوات «داعش»، ولا يتصدى للتيار الفكري والعقائدي الذي أنتج «داعش» وأخواتها وقبلها «طالبان» و«القاعدة».
بالطبع، فالتفاعلات التي أطلقتها عمليتا الطائرة وباريس تتفاعل بقوة. وفرنسا باتجاه تغيير سياستها كما يتبين من خلال قرار مجلس الأمن بمبادرة فرنسية بتعاون دولي في مواجهة «داعش» وزيارات الرئيس الفرنسي هولاند إلى موسكو وواشنطن وبرلين ولندن، فيما يبدو أنه تمهيد لإقامة تحالف دولي يضم المعسكرين، وقد ترجمته كلٌ من روسيا وفرنسا في تنسيق عسكري لعملياتهما في سورية.
إذاً التحول المنطقي في المقاربة الدولية للتصدي لـ «داعش» وأخوتها هو في قيام تحالف إقليمي دولي، واضح المعالم، ولكن إلى أي مدى سيقارب هذا التحالف الجذور العميقة لظاهرة التكفير والإرهاب، والحاضنة لهذه التنظيمات والاتجاهات؟ وإلى أي مدى ستطرح الحلول الجذرية لأنظمة تغيِّب شعوبها وتحرمها من حقوقها الأساسية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية، وعدم التمييز بجميع أشكاله، والنهوض من حالة التخلف والفقر والتهميش باتجاه التنمية المستدامة كما أقرتها الأمم المتحدة (الخطة العالمية للتنمية المستدامة 2030) والتي تغطي الجوانب السياسية والاقتصادية والمجتمعية؟
هذه الأسئلة وغيرها مفتوحة على مختلف الاحتمالات والتسويات، ولكن من واجب شعوبنا ونخبها السياسية الديمقراطية والمجتمعية والمثقفين والشخصيات المجتمعية المؤمنة بحتمية التغيير، أن تتحرك لتؤثر في الحوادث، وأن تكون فاعلة لا منفعلة أي ترفع صوتها وتطرح برنامجها بوضوح وشمولية، وتمارس دور الدبلوماسية الشعبية في العلاقة مع الدول والقوى العالمية الفاعلة وإلا ستكون التسويات هذه المرة على حسابنا أيضاً.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2015/12/12