أميركا وروسيا... صدام الإرادات الكبرى
ستظل صورة الزعيمين الروسي والأميركي وهما يتبادلان الأنخاب على عشاءٍ في مقر البعثة الروسية بالأمم المتحدة، تلخّص الوضع العام للسياسة الدولية لهذه الفترة من التاريخ، كما لخّصته الصورة التاريخية التي جمعت زعماء روسيا وبريطانيا وأميركا نهاية الحرب العالمية الثانية.
الصورة التي تداولتها وكالات الأنباء ونشرتها صحف كثيرة عبر العالم، تظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مبتسماً وهو يرفع كأسه، فيما يقابله الرئيس الأميركي باراك أوباما بوجهٍ متجهّم. وهي لقطةٌ معبّرةٌ جدّاً، وقد جاءت لتكرّس بدقةٍ، مضمون خطاب الرجلين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
خطاب بوتين كان واضحاً في طرحه، فقد استغل لحظة الضعف والتردّد الأميركي في معالجة الملف السوري، حتى اتهم الكثيرون الولايات المتحدة بأنها لا تملك سياسةً محدّدةً في سورية، مع أن استمرار الوضع على ما هو عليه من جمود، يخدم مصالحها بأفضل طريقة، حيث يؤدي إلى استنزاف النظام السوري من جهة، وإبقاء «داعش» لأطول فترةٍ ممكنةٍ لتمدَّ جذورها في الأرض بحيث تصعب عملية اقتلاعها كلما طال الزمن.
بوتين اتهم الولايات المتحدة بعدم الجدية في محاربة «داعش»، وانتزع زمام المبادرة باتباع سياسة هجومية تضمن حضوره في آخر القلاع المتبقية (سورية) لنفوذ بلاده. ودائماً مَّا كان يستشهد بالنموذجين العراقي والليبي، وما آلت إليه الأمور في هذين البلدين، من تمكين القوى المتطرفة وعلى رأسها «داعش»، لتقريع الأميركيين وتذكيرهم بسياساتهم الفاشلة. وهو لم يكن بحاجةٍ لكشف عدم جدّيتهم في محاربة هذا التنظيم الإرهابي، فالعراقيون خبروا الموقف الأميركي، ولديهم وقائع وقصص كثيرة يروونها، من إسقاط الأميركيين المتكرّر لشحنات الأسلحة والغذاء على «داعش»، قيل إنها وقعت بالخطأ، وتكرار قصف الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي التي تحارب «داعش»، ووضعهم خطوطاً حمراء تحدّ من حركتهما لضمان عدم تغيير كفة التوازنات، والتي تهدف في النهاية إلى تطبيق مشروع التقسيم الذي يطمح إلى تطبيقه الأميركان.
خطاب بوتين كان واضحاً وحاسماً، وقابله خطابٌ مترددٌ وغير واثق، من قبل أوباما، الذي عجز عن فرض رؤيته والإقناع بها، على رغم ما اشتهر به من ملَكَةٍ خطابية. بل إن الحجج التي يطرحها الروس فيها تنبيه حاد وقوة إقناع، حتى بالنسبة إلى المتهاونين مع «داعش» من دول المنطقة، فهم يحذّرون من هذا «الثعبان المتوحش» الذي قضم أجزاءً كبيرة من الأراضي السورية والعراقية، وفرّخ فيها، حتى امتد بأذرعه ليهدّد الدول الأخرى، كما حدث في مصر وليبيا وتونس.
الروس يسخرون اليوم من الأداء الأميركي المموّه، فهم يعتبرون ما قام به التحالف الأميركي مجرد كرنفال جوي استمرَّ عاماً كاملاً من دون نتيجة. لقد كانت طلعات استعراضية أشبه بعروض الألعاب النارية، بينما كانت تتحرك سيارات وآليات «داعش» عبر الحدود العراقية السورية، بما فيها آلاف المقاتلين بأسلحتهم، تحت رادارات الطائرات الأميركية، دون أن تكترث برصدهم أو استهدافهم والتخلص منهم.
الروس يتكلّمون اليوم بمنطق أن أمن منطقة الشرق الأوسط جزءٌ لا يتجزأ من أمنهم القومي، وأنه لم يعد هناك مجالٌ للتلاعب بهذه القضية. فهناك أكثر من 1700 روسي يقاتلون في صفوف التنظيم المتطرف، ويشكّلون خطراً داهماً حتى في حال استمر الوضع السوري على ما هو عليه، فضلاً عن انتهاء الحرب ورجوعهم إلى وطنهم ليشكلوا خلايا جاهزة لتنفيذ عمليات القتل والتفجيرات.
إنه صراع إرادات دول كبرى، الغائب الأكبر فيها هم العرب، أصحاب الأرض، فنحن أمةٌ خرجت من التاريخ، وقريباً جدّاً سنخرج من الجغرافيا أيضاً.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2015/10/01