الغرب ينام على أُذُنيه
محمد علي فقيه
كان بات بوكانان (Pat Buchanan) مساعداً ومستشاراً خاصّاً لرؤساء الولايات المتحدة، ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ورونالد ريغان، وكان محقّاً في قوله: «عندما يتعلّق الأمر بحركات التمرّد، يعتمد التأريخ على من يكتب الرواية. وعادة ما يكون هذا فعل الأوليغارشية؛ التي غالباً ما تنتصر في النهاية. مع ذلك، يمرّ في بالي عدد لا بأس به من الإرهابيين الذين أصبحوا في ما بعد «رجال دولة» بترحاب واسع. لذا، فإنّ عجلة الزمان تدور، ولم تزل كذلك. بطبيعة الحال، فإنّ دَبْلَ سردية من شاكلة المسلّمات، السردية المطمئنة لمعتنقيها، المعصومة من الفشل، لا يعني أنّ تنقيحها سيكون يسيراً. ثمّة تعبير بريطاني قديم يصف جيّداً اختبار بريطانيا الاستعمارية للتحدّي الصامت للسرد السائد آنذاك في كلٍّ من إيرلندا والهند، عُرف باسم «التَّغَطرُس الغبي». فلمّا كانت حركات التمرّد الفردية مكلفة على المستوى الشخصي وبلا جدوى، كان تعبيرهم «الصامت» المرير عن تعجرف «أسيادهم» الغبي، أبلغ من أيّ قول. أثار ذلك حنق الحكّام البريطانيين، مذكّراً إياهم بعجزهم عن الشرعية. امتهن غاندي الصمت البليغ بأقصاه، كتب سرديته، فصارت هي التاريخ.
مع سيطرة التكنولوجيا العالمية على السرد اليوم، نكون قد دخلنا في نظام «للأشياء»، يختلف تماماً عن ذلك للجهود البريطانية المبكرة في كبح التمرّدات. فطوال العقدين الماضيين، لاحظ مراقبون غربيون كثُر عواقب انمساخنا المفاجئ إلى إمبراطوريات مراقبة تشغّلها هندسات مراقبة السلوك، والتحليل، والاستهداف، والتنبؤ العالمية، التي أسموها «رأسمالية المراقبة» Surveillance Capitalism. معتمدة على قوة قدراتها في المراقبة، وفي خدمة أرباحها منها، صمّمت تلك الإمبراطوريات انقلاباً معرفياً مناهضاً للديمقراطية بأساسه، تميّز بتحشيد غير مسبوق لـ«المعرفة عنّا» والقوة غير المسؤولة الناجمة عن تلك المعرفة.
شدّة الخطورة تكمن في جوهر الانقلاب المعرفي. إذ أنهم (حكام الإمبراطوريات) يستأثرون بسلطة «من يعرف ماذا» Who Knows What، ما يعني أنّهم يتزاحمون اليوم والديمقراطية على الحقوق والمبادئ الأساسية التي ستحدّد نظامنا الاجتماعي في هذا القرن. إذن، هل سيجبرنا الإدراك المتنامي لهذا الانقلاب على احتساب الحقيقة اللامؤاتية التي ظهرت في العقدين الماضيين؟ فإمّا أن تكون لنا ديمقراطية، أو أن يكون لنا مجتمع مراقَب، لكن بالطبع ليس كلاهما.
يمثل هذا، بوضوح، مبلغاً مختلفاً تماماً من «سيطرة» باتت اليوم أداة كبح مهولة تستخدمها الإمبراطوريات في لجم أيّ معارضة أو انشقاق داخلي وخارجي على حد سواء. ناهيك عمّا إذا ما تمّ دمجها بأساليب الغرب في مكافحة السرد «الإرهابي» التي شحذها الأباطرة خلال «حربهم العظمى على الإرهاب».
على أيّ حال، للقوة تلك مكامن ضعف. ببساطة، ولكونك منغمساً بشدة في «واقع» معيّن، فإنّك لن تصغي لـ«حقائق» الآخرين، إذ أنّها لا تشرق خلف السهول اللامتناهية للخطاب الرضائي، وليس لها أن تخرق الحجاب الصلب للسردية السائدة، أو أن تشدّ انتباه النخب المُنْصَبَّة على إدارة روايتها الخاصة عن الواقع. أما «الضعف الهائل»، فهو إيمان النخب برواياتهم الخاصة، متناسين أنّ السرد اعتبر يوماً مجرّد وهم، واحد من كثير، تم اختلاقه لاستحواذ خيال مجتمع السارد، لا المجتمعات الأخرى. يفقد هؤلاء القدرة على الابتعاد قليلاً، لرؤية أنفسهم كما يراها الآخرون، فيفتنون بفضيلة مفهومهم للعالم، لدرجة أنّهم يفقدون قدرتهم على قبول حقائق الآخرين. المغزى هنا، أنه في هذا الحديث المتجاهل للكيانات الأخرى، سيُساء تفسير دوافع ونوايا الآخرين، وبشكل تراجيدي أحياناً.
الأمثلة على ذلك وفيرة، لكن يبقى أن تصوّر إدارة جو بايدن بأنّ الزمن قد انقطع، مذ رحل باراك أوباما عن منصبه، واشتغل مجدّداً في الـ20 من كانون الثاني / يناير، متزامناً مع لحظة استكمال بايدن تلك الحقبة السابقة (كما لو أنّه لم ينقطع أساساً)، يشكّل مثالاً للاعتقاد في «ميم» MEME الفرد. في حين أنّ اندهاش الاتحاد الأوروبي وغضبه، حين وصفه لافروف في موسكو بـ«الشريك غير الموثوق»، هما مثال آخر عن بعد النخب عن العالم الحقيقي، وعن كونهم أسرى تصوّراتهم لذواتهم.
قول بايدن «أميركا قد عادت» للقيادة، ولوضع قواعد اللعب لبقية العالم، قد يكون الهدف منه إشعاع قوة الولايات المتحدة، ولكنّه يستعرض بدل ذلك الفهم الضعيف للوقائع التي تواجهها: علاقاتها مع أوروبا وآسيا كانت تتنافر بازدياد قبل دخول بايدن البيت الأبيض، أي قبل فترة ترامب الهدّامة أيضاً! السؤال عن سبب تنكّر الولايات المتحدة المستمر لذلك، نجيب عليه بأنّ بعد سبعة عقود من السيادة العالمية، ثمّة بعض سوء من شأنه أن يعيق أيّ قوة مهيمنة عن تدوين واستيعاب التغيّرات المهمة للماضي القريب.
أضف إليه عاملاً آخر يساعد في تفسير «أذنها الطرشاء»: تركيز المؤسّسة الأوسع على منع محصّلات الانتخابات الرئاسية لعام 2020 من تصديق صحة نتائج الانتخابات السابقة (التي جاءت بترامب). هل يُعقل أنّ شعباً قد اختار شخصاً كدونالد ترامب في عام 2017، ليعود بعد أربع سنوات لاختيار شخص كجو بايدن؟
هذا ليس فريداً بالنسبة إلى أميركا. من السهل أن نفهم علّة تعامي الاتحاد الأوروبي عن وصف السيد لافروف له بأنه «شريك غير موثوق» (وهو بالفعل كذلك). إذ كتب وزير الخارجية اليوناني السابق، يانيس فاروفاكيس، عن تجربته الخاصة في محاولة إقناع الاتحاد الأوروبي الاستماع إلى ملخّصاته ومقترحاته التفصيلية المتعلّقة بأزمة بلاده المالية: جلسوا (المجموعة الأوروبية) والتجهّم يعلو وجوههم، غير آبهين بكلمة ممّا أقول - لربما قد غنيت النشيد الوطني السويدي أيضاً. رغم كل الثناء الذي قدّموه لمساهماتي، قال فاروفاكيس لاحقاً. كانت تجربته بمثابة نبذة قياسية عن طريقة عمل الاتحاد الأوروبي، فالأخير لا يقوم «بالمفاوضات»، بل يتوجّب على المتوسلين، أكانوا من اليونان أو بريطانيا، قبول حزمة قيمه وقواعده.
وصل الممثل السامي بوريل حاملاً قائمة طويلة من الشكاوى المنتخبة من 27 دولة، قرأ المطالب، وتوقّع، بلا شك، أن يجلس لافروف، مثل فاروفاكيس، بهدوء، متقبّلاً التوبيخ اللائق بأيّ طامح للتفكير بنوع من علاقة العمل مع «أكبر سوق استهلاكي» في العالم. هذه هي ثقافة الاتحاد الأوروبي. تلا ذلك، المؤتمر الصحافي الذي وصف فيه لافروف الاتحاد الأوروبي بـ«غير الموثوق». يعرف البروتوكول أيّ شخص حضر إحدى هيئات صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، لكن دع مسؤولاً سابقاً رفيع المستوى في الاتحاد الأوروبي يخبرك: يتولّى المجلس مهمة الشؤون التنفيذية في جلسات مغلقة، ينادي فيها رؤساء الحكومات بعضهم البعض بأسمائهم الأولى، تجدهم يوافقون على قرارات لم تكن في حسبانهم، ليخرجوا بعدها لالتقاط صورة عائلية مبهجة أمام كاميرات الألف مراسل المجتمعين، التوّاقين لسماع أخبارهم. صورتهم تجعل الفشل مستحيلاً، فكل قمة تنتهي برسالة أمل وتصميم مشترك. لكن لافروف، يا لسوء حظه، كبعض أقاربنا في المنفى، لم يعرف كيفية التصرف في مجتمع الاتحاد الأوروبي «المهذب»، هناك لا يُنادَوْن بأسماء دولهم. يا لحظ لافروف العاثر!
على عكس الاتحادات الدولية التي يفترض كونها عامل استقرار يحول دون اتساع هوامش الصراعات بين الطبقات الاجتماعية والجماعات، تم إنشاء الاتحاد الأوروبي، «كارتيل» بصلاحيات تمكّنه من تحقيق الاستقرار في هوامش الربح للشركات الكبيرة والمركزية في أوروبا. انبثق الاتحاد باسم «الجماعة الأوروبية للفحم والفولاذ»، من هذا المنظور، فإنّ بِرّ الاتحاد الأوروبي العنيد بالممارسات الفاشلة بدأ يصبح منطقياً، فالكارتلات جيدة نوعاً ما في توزيع الأرباح المونوبولية بين الأوليغارشية، لكنّها سيئة في توزيع الخسائر. معلوم أيضاً أنه، على عكس الدول القويمة، ستجابِه الكارتلات بالرفض أي ديمقراطية أو تدخل خارجي في دائرة صنع قرارها الضيقة.
إنّ إستراتيجية الغرب المعادية لروسيا، مشروطة بمَعرفة أن ليس للأخيرة مكان آخر تذهب إليه، وبالتالي ينبغي لها الشعور بالسعادة والشرف بفكرة تنازل الاتحاد الأوروبي عن قطع أصابعها الممتدّة نحو أوراسيا. في حين أنّه، مع تحول مركز الثقل الجيو - إكونوميكي إلى الصين وشرق آسيا اليوم، فإن السؤال الأكثر واقعيةً هو ما إذا كان وسط أوراسيا الكبرى، بتعداده البالغ 2.2 مليار نسمة، يشعر بأنه من المجدي له مدّ مجسّاته نحو الاتحاد الأوروبي. هذا ليس بالأمر الهيّن، فتحيّر الاتحاد الأوروبي من تشنيع لافروف له في موسكو هو أمر. واحتمال أن تسمع الولايات المتحدة لروسيا والصين، من دون أن تنصت لهما، أمر مختلف تماماً. سوء السمع والتصورات الخاطئة لهاتين الدولتين يرقى إلى مستوى الحرب والسلام العالميين. الغرب اليوم يحدِّق في سرّته، لن يرى سواها.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2021/02/20