البلدوزر الروسي
من الواضح حالة الإرباك الشديد التي تعم الساحة الدولية خلال هذه الفترة، جرّاء القرار الروسي بانتزاع زمام المبادرة للتدخل في سورية عسكرياً.
الأميركان ابتدعوا أسلوب «الصدمة والترويع» في تدخلاتهم العسكرية في العقدين الأخيرين، حيث توّجوا سياستهم الخارجية بعمليتي غزو مكلفتين لأفغانستان والعراق، تحت غطاء «محاربة الإرهاب». واليوم يباغتهم الروس باستخدام طريقة هجومية مقاربة لسياستهم، وتحت المسمى نفسه: «محاربة الإرهاب»، وقد أظهرت عملياتهم العسكرية حتى الآن، ترويعاً للحركات التي استهدفتها.
الروس استغلوا بذكاء، فترة الضعف الأميركي وإعلانهم الصامت الانسحاب من المنطقة، كما استغلوا تناقضات السياسة الأميركية وانعدام مصداقيتها إلى حد بعيد. هذه المصداقية التي باتت وسائل الإعلام والصحافة الأميركية تتشكّك فيها باستمرار. بل إن تصريحات بعض القادة الأميركيين أنفسهم، سياسيين أو عسكريين، باتت محل تندر وتهكم، وآخرها ما صرّح به جنرال أميركي قبل أسبوع، من أن من بين 3000 عنصر من «المعارضة السورية» ممن تم تدريبهم، التحق أغلبهم بتنظيم «داعش»، بينما سلم الباقون أسلحتهم وذخائرهم إلى تنظيم النصرة، الفرع السوري لتنظيم «القاعدة» الذي تعتبره واشنطن رسمياً تنظيماً إرهابياً. وقد ذهل أعضاء لجنة القوات المسلحة بالكونغرس حين سمعوا أحد الجنرالات يعترف أمامهم، بأنه لم يبق من الجماعات العسكرية التي دربتهم بلاده غير خمسة أشخاص مازالوا يقاتلون تحت اللواء الأميركي!
وبحسب الادعاءات الأميركية، فإن تكلفة تدريب عنصر واحد تصل إلى مليون دولار (مع الأخذ في الاعتبار أن الأرقام والمعلومات التي يسرّبها الأميركيون مبالغ فيها لدوافع الاستعراض أو التخويف أو الابتزاز).
على هذا الأساس، بنت روسيا موقفها الجديد، بعد أربع سنوات من الاقتتال الداخلي والتدخلات الغربية والإقليمية في سورية، وبعد عامٍ كاملٍ من إعلان واشنطن الحرب رسمياً على تنظيم «داعش» الذي أعلن دولته على مساحة واسعةٍ من الأرض السورية والعراقية. وهي حربٌ ذات طابع استعراضي فارغ، لم يكن لها نتيجةٌ على الأرض، لسبب جوهري، وهو أن «داعش»، هذا التنظيم السري الغامض، أكبر كتيبة من المقاتلين «المتطوعين» تخدم الأهداف الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، من نشر الفوضى الخلاقة وتفكيك الدول وتمزيق شعوبها طائفياً. ولم يكن صدفةً بروز «داعش» مع استكمال الانسحاب الأميركي عسكرياً، وإعلان رغبتها ترك شئون المنطقة لأهلها، دون أن تتورط في مزيد من الاقتتال بينهم، أو تضحّي بجندي أو دولار واحد في حروبهم الطائفية.
السياسة الروسية التي اعتمدت الهجوم، بنت على كل هذه العوامل، وفي اليوم الأول للحرب، ابتدأت باستهداف مجموعة متنوعة من التنظيمات العسكرية التي تقاتل النظام السوري. وقد وضعتْ كل هذه التنظيمات على مسطرةٍ واحدة، دون تمييز أو تفريق، ما أثار موجة من الاستنكار والتنديد الإعلامي من قبل داعمي هذه التنظيمات ورعاتها، وخصوصاً الغربيين، لإدراكهم بأن هذه العمليات ستغيّر قواعد اللعبة تماماً، وربما تضع نهاية للأزمة على غير ما يريدون وبأسرع مما كانوا يتوقعون.
الروس أعلنوا بوضوح أن ما يجري في سورية من فوضى، يهدّد أمنهم القومي، ولذلك بادروا بشن هذه الحرب الاستباقية، مستخدمين أسلوب «الصدمة والترويع»، للقضاء على الإرهاب في أوكاره قبل أن يتمدّد إليهم.
دخول الدب الروسي الساحة السورية، وبهذا الحجم من الغضب والتصميم والاندفاع، تفسّره عدة عوامل، أولها استرجاع وضع الدولة الكبرى وهيبتها التي فقدتها أيام بوريس يلتسين، وآخرها اقتراب الغرب من حدودها، واللعب في حديقتها الخلفية (أوكرانيا)، ودعمه المعلن للتمرد على سياستها. وقد تجمعت كل تلك العوامل ليهبّ الروس من إغفاءتهم الطويلة ويمتشقوا السلاح ويعلنوا حربهم المقدّسة على الإرهاب.
الكاتب: قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية.
أضيف بتاريخ :2015/10/05