الرؤية الوطنية: عوائق الترهل الإداري
د. مشاري بن عبدالله النعيم ..
من الضروري الحديث عن رؤية المملكة 2030 بشكل عملي يحاكي الواقع على الأرض لأن المسألة ليست في وضع الخطط والأفكار لكن في التنفيذ، فإذا كان سيحدث تحول اقتصادي واجتماعي على المستوى الوطني فيجب أن يكون تحولاً يتحدى الواقع ويغيره لا أن يكون تحولاً يتكيف مع الواقع مع الوقت ثم يصير جزءاً منه. الرؤية الطموحة كما قرأتها وكما سمعت بعض تفاصيلها من سمو ولي ولي العهد، تعبر عن طموح أبناء الوطن، لكن لا أستطيع أن أقول أنها لن تواجه تحديات كبيرة وعميقة وعلى مستويات عدة، لعل أبرزها المستوى الإداري، فالنظم الإدارية وما يصاحبها من نظم تشريعية بالية ومترهلة ولا تدعم أي خطة تحول حقيقية تتطلب السرعة والدراية. هذه المشكلة على وجه التحديد تشكل عقبة كبيرة، وكثير من الخطط فشلت في السابق بسبب الترهل الإداري وعدم ملاءمة الأنظمة.
يضاف إلى ذلك تحديات اقتصادية وثقافية عديدة، وفهمنا لهذه التحديات والاستعداد لها والتعامل معها بعقلانية سيؤدي إلى نجاح الرؤية. دعونا نتفق أن التحول المطلوب غير هين، فنحن نتعامل مع إرث إداري وثقافي مثقل بالمشاكل، ولعلنا نتفق كذلك أن هذا الإرث أدى الدور المطلوب منه في فترة تاريخية محددة ولم يعد مناسباً في الوقت الراهن، ومن المعروف أن الأمم التي لا تستطيع أن تتكيف مع عصرها تمرض وتموت ونحن لانريد أن نموت ونملك الفرصة للتغير والتعامل مع معطيات العصر. المملكة تملك شعباً شاباً ومتفتحاً ومتنوع الثقافة ولديه شعور عميق بالمسؤولية ولكن يبقى أن نطور أنظمة توظف هذه الطاقات وتستفيد منها.
وسوف أضرب مثالاً هنا مرتبطاً بمقالي السابق حول العمران الذي يستنزف مواردنا ولا يقدم لنا بالمقابل أي دخل. ففي لندن تم الإعلان عن افتتاح أول ماكينة لصرف العملة المحلية يوم 11 من الشهر الجاري، في حي "بريكستون"، وهو حي فقير والهدف هو أن يتم تداول العملة النقدية داخل هذا الحي فقط وبالتالي لا يتم استنزاف موارد سكان الحي. الفكرة ليست جديدة فقد وجدتها مستخدمة في كوبا حيث يوجد عملة محلية يتم تداولها في مناطق محددة بينما البيزو الكوبي القابل للتحويل هو العملة الرسمية. هذه المرونة الكبيرة في التشريع واستصدار الأنظمة التي تسمح لأجزاء محددة من الوطن ان يكون لها خصوصيتها الاقتصادية لتنميتها وتطويرها هو المطلوب، فليس بالضرورة أن ما ينطبق على الرياض ينطبق على قرية في الجنوب أو الشمال أو الشرق.
عندما تحدثت مع الزميل الدكتور وليد السيد، وهو مقيم في لندن، حول حي "بريكستون" وكيف يمكن أن يعمل داخل مدينة كبيرة بأسلوب اقتصادي مستقل عن باقي المدينة، قال لي إن هذا النظام أشبه ما يكون بالمقايضة التقليدية، وهو نوع من أنواع "العانية" التي يتعاون من خلالها سكان منطقة للوفاء بمتطلبات حياتهم. خلاصة الحديث هي أن أي "رؤية" يجب أن ترتكز على فهم القدرات التي تملكها كل منطقة، حتى لو كانت الرؤية "وطنية"، لأن التخطيط يتعارض مع الاعتقاد أن الفرص والممكنات متاحة بشكل عام للجميع لأن هذا يؤدي إلى إهدار الموارد وتضييع الوقت.
السؤال هو هل الأنظمة والتشريعات بالإضافة للنظام البيروقراطي الذي نتبعه الآن قادر على التعامل مع الرؤية الوطنية؟ بالنسبة لي لا اعتقد ذلك مطلقا، وإذا حدث تعطيل في تنفيذ الرؤية سيكون سببه الأول هو الأنظمة البالية والثاني من يدير العمل الحكومي بشكل عام. لأن القضية الأخرى هي أن التكوين الإداري الحكومي مليء بالبيروقراطيين المتزمتين الذين يؤمنون بتطبيق النظام حرفيا حتى لو كانوا يرون أن الزمن قد تجاوز هذا النظام. المهم بالنسبة لهم أن لا يرتكبون خطأ يحاسبون عليه حتى لو كانت نتائج عملهم كارثية. التحول يجب أن يشمل الأنظمة ومن يقوم بتنفيذ هذه الأنظمة في الوقت الحالي، فلا يكفي أبدا أن نضع تشريعات جديدة، لأننا جربنا وضع أنظمة في السابق ولم تنفذ لأن عقلية المنفذ لم تتغير وهذا يعتبر أحد التحديات الكبيرة التي تواجه الرؤية.
ربما أعود لأحد المقترحات المهمة التي يفترض أنه تدعم نجاح الرؤية الوطنية، وهو تفعيل "الإدارة المحلية" فرغم أن هذا المقترح قديم لكنه لم يحظى بأي دعم، وظلت المؤسسات الحكومية تعمل بأسلوب مركزي مع بعض الاجتهادات المحلية. ربما نحن اليوم بحاجة إلى هذا الزخم المحلي في إدارة مؤسسات الدولة، فقرار مثل عملة حي "بريكستون" في لندن لا يمكن أن يصدر على المستوى المركزي بل يجب أن يكون هناك قدرة لدى الإدارة المحلية لاستصدار قرارات ملائمة للموارد والإمكانات المحلية، والتنمية إذا لم تحدث على المستوى المحلي فلن تحدث على المستوى الوطني.
في اعتقادي أننا نحتاج إلى ثقافة إدارية جديدة ويجب أن يدعم هذه الثقافة قرارات حكومية جريئة بنفس جرأة طرح الرؤية الوطنية وإلا سيظل التحول مجرد أفكار. الجرأة الحقيقة هي في التنفيذ لأنها، أي الرؤية، ستصطدم بحياة الناس واختلافاتهم المعيشية والفكرية وستواجه مقاومة متفاوتة، والعبرة كيف يمكن أن تسير الرؤية وسط هذه المقاومة دون أن تتكيف وتتحول لترضي البعض على حساب المصلحة الوطنية. كثير من الرؤى والخطط كانت طموحة في بداية انطلاقاتها لكنها تآكلت مع الوقت وأصابتها تعرية المقاومة الاجتماعية وتحولت إلى رؤية مختلفة لا تمت للأصل بأي صلة.
دون شك الرؤية الوطنية أتت في وقتها المناسب وهي تعبر عن إيمان حقيقي لدى ولاة الأمر بأهمية التغيير، والمملكة بما حباها الله من موارد وطاقات بشرية قادرة على خوض معركة التغيير بنجاح. الأمر يعتمد علينا نحن المواطنين وعلى إيماننا بأهمية مساندة الحكومة في إحداث تحول وطني حقيقي نلمسه يوما بعد يوم، فلا يعتقد البعض أن هذا التحول سيحدث بين لحظة وضحاها لأن أي تحول هو تدريجي ويتغلغل داخل الثقافة المجتمعية وينمو معها ومع الاجيال اللاحقة، إنه تحول نزرعه اليوم لينمو ويثمر ونقطف ثماره في الغد، لذلك أتمنى أن يتحلى الناس بالصبر وأن يكون إسهامهم حقيقياً ونابعاً عن إيمان أنهم يعملون من أجل الوطن قبل أنفسهم.
صحيفة الرياض
أضيف بتاريخ :2016/04/30