بريطانيا ونصف قرن من سياسات النفق المغلق
د. سعيد الشهابي
في مثل هذه الأيام قبل خمسين عاما كانت القوات البريطانية تستعد لإكمال انسحابها من منطقة الخليج بعد أكثر من 150 عاما من الهيمنة الاستعمارية، وبعد أقل من أربعة أعوام من إعلان الحكومة العمالية ذلك القرار. فما الذي دفع لذلك للانسحاب؟ وماذا كانت تبعاته؟ وما طبيعة التركة البريطانية في المنطقة؟ وأين أصبحت العلاقات البريطانية ـ الخليجية اليوم؟
كان وقع القرار الذي أعلنه وزير الخارجية البريطاني في يناير 1968 مفاجئا للمشيخات الخليجية التي اعتمدت على الحماية البريطانيا لمنع حدوث التراشقات في ما بينها من جهة والتهديدات لها من خارج الحدود. ومن المؤكد أن القرار أدى إلى انكماش أكبر للامبراطورية البريطانية التي امتدت من شرق العالم إلى غربه. وكان واضحا أن ذلك المنحى كان مؤشرا أكيدا لأفول تلك الامبراطورية التي شهدت ذروتها في عهد الملكة فيكتوريا والتي رفضت أن ينافسها أحد. فكان شعور حكامها التصدي لأية منافسة على الزعامة والريادة، ويمكن اعتبار الحربين العالميتين مصداقا لذلك، إذ لم تسمح بريطانيا لألمانيا بمنافستها على النفوذ داخل أوروبا.
وقد كان للقرار البريطاني أسبابه الداخلية الضاغطة. فكانت بريطانيا تعاني من ظروف اقتصادية صعبة منذ خروجها من الحرب العالمية الثانية. صحيح أن الحلفاء هزموا ألمانيا وحلفاءها في تلك الحرب، ولكن بأي ثمن؟ لقد تآكلت القوة الاقتصادية للامبراطورية فكان ذلك عاملا في قرار الانسحاب. يضاف إلى ذلك تطوران آخران حدثا خلال ربع القرن الذي أعقب انتهاء الحرب. فقد كان استقلال الهند ضربة موجعة للامبراطورية التي كانت تعتبرها «لؤلؤة التاج» نظرا لأهميتها السياسية والعسكرية والاقتصادية. وكانت خسارة الهند ضربة نفسية موجعة هزت ثقة الامبراطورية بنفسها. وأعقب ذلك ما حدث خلال أزمة السويس في العام 1956. فبعد العدوان الثلاثي على مصر الذي اشتركت فيه كل من فرنسا و «إسرائيل» إلى جانب بريطانيا، تدخلت الولايات المتحدة ضد التحالف وطالبته بالانسحاب الفوري، الأمر الذي أربك الموقف البريطاني بشكل خاص. وهكذا أدركت بريطانيا اهتزاز موقفها الدولي وتراجع حظوظها السياسية، فكان ذلك من بين العوامل التي دفعتها لتقليص وجودها العسكري في المناطق التي خضعت للاستعمار ردحا من الزمن. وهناك جوانب ثلاثة تستدعي الاهتمام:
أولها: النفسية البريطانية الحالية وانعكاساتها على السياسة الخارجية. في هذا الجانب ما تزال مشاعر الحنين إلى الماضي «نوستالجيا» تفرض نفسها على «بريطانيا العظمى» الأمر الذي يقلل من شأنه أمور عديدة من بينها نزعة الأقاليم التي تشكل «المملكة المتحدة» للانفصال. وما التوتر المتواصل في العلاقات بين الإدارة المحلية في اسكوتلاندا بزعامة الحزب الوطني الاسكوتلاندي برئاسة نيكولا ستيرجن، الا احد مصاديق النزعة الانفصالية لدى هذه الاقاليم، ومن بينها ايرلندا الشمالية ايضا. برغم ذلك ما يزال الساسة البريطانيون يسعون للحفاظ على النفوذ في منطقة الخليج التي انسحبوا منها قبل نصف قرن. وساهم الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في دعم هذا التوجه، ويعبّر عن تلك النزعة بناء القاعدة البحرية في البحرين قبل سبعة أعوام، وإصرار بعض المسؤولين الحكوميين على توثيق الترابط الأمني مع نظام الحكم في البحرين. وفي «حوار المنامة» 2014 خاطب وزير الخارجية البريطاني السابق، فيليب هاموند حكام الخليج قائلا: أن أمنكم هو أمننا». ولكن هؤلاء الزعماء أنفسهم هم الذين أصدروا الأوامر لجنودهم بالانسحاب السريع من أفغانستان بعد أن رفضت الإدارة الأمريكية وحركة طالبان تمديد فترة الوجود العسكري الأجنبي إلى يوم غد (31 اغسطس).
وقال البريطانيون انهم لا يستطيعون تسيير رحلات النقل الجوية في غياب القوات الأمريكية. هذه الحقيقة تكشف كيف أصبحت بريطانيا بعد العام 1971 تسير في الظل الأمريكي وتؤثر على قرارات واشنطن خصوصا إزاء حكومات الخليج. فاذا عجزت تلك القوات عن إدارة مطار كابول، فكيف تستطيع منافسة الصين او روسيا في جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي. إن بريطانيا اليوم في حاجة لسياسات واقعية لتحديد موقعها العالمي، والأجدر لها أن تغيّر إيديولوجيتها الاستعمارية وتستبدلها بأيديولوجيا إنسانية تسعى لتحقيق أمن العالم ورفاه شعوبه وترويج الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان.
ثانيها: العلاقات مع الولايات المتحدة التي كانت توصف بأنها «خاصة» في ضوء ما تمر به السياسة الأمريكية من تغيرات خصوصا الجنوح نحو الانكفاء على الذات والتركيز على «العمل الأحادي، يونيلاتيراليزم» والتراجع عن «العمل الجماعي». وقد كشفت تطورات أفغانستان الاخيرة أن «الصداقة الخاصة» لا تعني الكثير على ارض الواقع. فقد قررت الإدارة الأمريكية بشكل أحادي الانسحاب من أفغانستان بدون التفاهم مع حلفائها في حلف «الناتو». ولم يتم التنسيق حتى مع بريطانيا، أقرب الحلفاء. ولذلك شن السياسيون ووسائل الإعلام في بريطانيا حملة نقد واضحة للقرار الأمريكي، الأمر الذي ينذر بتحول أفغانستان إلى أزمة بين ضفتي الأطلسي من جهة، والى العودة إلى المربع الاول في مجال مكافحة الإرهاب، الذي كان العنوان الأوسع للتدخل العسكري الذي قادته أمريكا قبل عشرين عاما.
السياسة البريطانية هنا تبدو جامدة وعاجزة عن التأثير على مجريات الأمور خارج حدودها. وكان الأجدر بالساسة البريطانيين أن يستشرفوا مستقبل النفوذ الأمريكي في العالم بعد أن رأوا بأعينهم ما حدث لنفوذهم، ويتخلوا عن الطموحات غير الواقعية لاستعادة «الأمجاد» الغابرة. أما التشبث بـ «العلاقات الخاصة» مع الولايات المتحدة فقد ظهر عدم جدواها عمليا. وقد أظهر التورط البريطاني في كل من العراق وأفغانستان الحدود الطبيعية لأي طموح عابر للقارات لدى الدول. فالقوة الذاتية انما يحققها التركيز على التنمية الداخلية بالاضافة للتعاون العقلاني مع الخارج. هذا ما تحقق لكل من اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد تمكنتا من استعادة قوتهما الاقتصادية ضمن حدود البلدين، لتتمتعا بأكبر اقتصادين بعد أمريكا والصين.
ثالثها: من الأجدر لبريطانيا، وهي تستحضر الذكرى الخمسين لانسحابها من منطقة الخليج إجراء جرد حساب ذاتي يتضمن إعادة تقييم سياساتها الخارجية والداخلية، لكي تدرك خطر الاستمرار بدعم أنظمة الاستبداد. فعلى مدى العقود الخمسة منذ انسحابها لم تتراجع عن المشاركة بقمع تطلعات شعوب المنطقة. بدأت ذلك بتسهيل جريمة احتلال فلسطين في 1948، واستمرت في الدفاع عن الاستبداد وغض البصر عن اضطهاد الشعوب، وشاركت في الحروب اللاحقة بدون جدوى. ولا يبدو أي من حروبها مكلّلا بنصر مشرّف، بل أن النتائج كافة تؤكد هزائم سياسية وأخلاقية متتالية، فمن المشاركة في وضع فلسطين تحت الانتداب الذي أدى للاحتلال الإسرائيلي، إلى المشاركة الفاعلة في قمع انتفاضة الخمسينات في البحرين ثم انتفاضة 1965، مرورا بحربي الخليج، الاولى (الكويت 1991) ثم العراق (2003) وصولا إلى المشاركة السياسية الداعمة لضرب ثورات الربيع العربي، وبعدها المشاركة الفعلية في حرب اليمن، يجدر بالساسة البريطانيين إعادة قراءة تلك الملفات من منظور إنساني لكي تكتشف النتائج الكارثية لتلك السياسات.
أن بريطانيا قادرة أن تكون قوة من اجل الخير، ولكن ساستها حتى الآن يصرون على غير ذلك. ألم يحن الأوان لعودة بريطانيا إلى ذاتها ووقف التداعي السياسي والأخلاقي والقيمي في عالم يفتقر للقيادة الإنسانية الفاعلة؟ ألا يشعر حكام بريطانيا أن شعبهم ينتظر منهم مراجعة شاملة لملفات الاستعمار وبعده التدخل بعنوان الحفاظ على الأمن، بموازاة التدخل للحفاظ على أمن أنظمة قمعية تمارس الاضطهاد الشامل وترفض قيم التصالح والحرية والعدالة وإقامة حكم القانون، والضرب على أيدي العابثين بحقوق شعوبهم.
أن لم يفعل الساسة البريطانيون ذلك فسيكونون قد ارتكبوا ما لا يرضى به مواطنوهم، وسيبتعدون تدريجيا عن شعبهم الذي يزداد وعيا بالسياسة الخارجية وارتباطا بشعوب العالم وحماسا لقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية. حان الوقت لكي تقوم بريطانيا بتقييم كامل لسياساتها على مدى خمسة عقود، أن كانت ترغب في بث ثقافة الأمن والاستقرار في منطقة هي الأكثر اضطرابا من الآخرين. فتجربتها في أفغانستان أظهرت عدم جدوى تشطير الأزمات او الارتباط الكامل بالسياسات الأمريكية، أو التوسع في التدخلات بذرائع لا تؤكدها الوقائع.
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2021/08/30