عاجل

التقارير

#تقرير_خاص: صفقة اليمامة: فساد عابر للزمن يفضح ازدواجية المعايير الدولية

عبدالله القصاب

في عام 1985، بدأت قصة صفقة اليمامة، التي كانت في ظاهرها صفقة عسكرية ضخمة بين السعودية وبريطانيا، لكن الحقيقة كانت أعمق وأخطر من ذلك بكثير. إذ لم تكن مجرد عملية شراء أسلحة، بل كانت بمثابة لوحة كبيرة تُرسم فيها خطوط الفساد والازدواجية في المعايير الدولية، حيث تتداخل المصالح الاقتصادية مع السيادة الوطنية، وتُطوى ملفات الفساد تحت عباءة السرية والنفاق السياسي.

على مر السنين، ظلت صفقة اليمامة محاطة بهالة من الصمت والتجاهل، رغم ما كشفت عنه الوثائق المسرّبة حديثًا من حقائق مروعة. فبين عامي 1985 و2007، تم تحويل مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية من وزارة الدفاع البريطانية إلى حسابات خاصة في السعودية، لا علاقة لها بصفقات السلاح أو الدفاع. بل استُخدمت لشراء ممتلكات فاخرة وطائرات خاصة للأمراء، مما يفضح أن الصفقة لم تكن دفاعية فقط، بل كانت منصة لغسيل الأموال وتبييضها عبر قنوات رسمية.

هذه الحقائق تضعنا أمام سؤال جوهري: كيف يمكن لدولة تدعي مكافحة الفساد أن تتورط بشكل مباشر أو غير مباشر في عمليات تمويل مشبوهة؟ الإجابة تكمن في ازدواجية المعايير التي تتعامل بها الدول الكبرى مع مصالحها الاقتصادية والسياسية على حساب المبادئ الأخلاقية. بريطانيا التي تعلن عن التزامها بمحاربة الفساد عالميًا، كانت في الواقع جزءًا من شبكة فساد عابرة للحدود.

ما يزيد الأمر سوءًا هو إخفاء تقرير أعده مكتب التدقيق الوطني البريطاني (NAO) عام 1992 عن البرلمان لعقود طويلة. هذا التقرير احتوى على تفاصيل حساسة حول نظام التمويل الداخلي للصفقة، وهو ما يعكس محاولة حكومية متعمدة للتستر على حجم الفساد الحقيقي الذي طالما ظل مخفيًا خلف ستار من السرية والابتسامات الرسمية.

وفي الوقت الذي تتشدق فيه الحكومات الغربية بمبادئ الشفافية والنزاهة، تظهر الوقائع أن تلك المبادئ غالبًا ما تكون مجرد شعارات تُرفع عند الحاجة فقط. فحين تتعارض المصلحة الاقتصادية مع الأخلاق والقيم الإنسانية، يتم التضحية بالأولى دون تردد. وهذا ما يفسر استمرار بعض الدول الكبرى في دعم أنظمة وعمليات فساد رغم ادعائها بمحاربة الظواهر المشينة.

أما الشعوب التي دفعت ثمن هذه الصفقات فهي الضحية الدائمة. فهي التي استُخدمت أموالها لشراء وهم الأمن والاستقرار بينما كانت تُنهب وتُسرق بأيدي مسؤوليها وأصدقائهم في الخارج. إنهم ضحايا سياسة تبيع الوهم مقابل المال والسلطة، وتغطي على جرائم لا تقل خطورة عن تلك التي ترتكبها الجماعات الإرهابية أو الأنظمة القمعية.

وفي سياق متصل، فإن الكشف الأخير عن وثائق سرّبتها صحيفة The Guardian يعيد إلى الأذهان حقيقة مريرة: أن الفساد ليس حادثًا عرضيًا أو استثناءً؛ بل هو سياسة ممنهجة ومؤسسات رسمية مشاركة فيها بشكل مباشر أو غير مباشر. وهو دليل واضح على أن بعض الدول تستخدم صفقات السلاح كوسيلة لتبييض الأموال وتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي على حساب الشعوب المستضعفة.

هذه الحقائق تفرض علينا إعادة النظر في مفهوم العلاقات الدولية والمعايير الأخلاقية التي تحكمها. فهل يمكن أن نثق بعد الآن بوعود الغرب بمحاربة الفساد إذا كان جزءًا منه؟ أم أنها مجرد كلمات للاستهلاك الإعلامي والسياسي؟ إن التاريخ يُعلمنا

أضيف بتاريخ :2025/05/27

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد