انقلاب تركيا وانقسام النخب العربية
حسن المصطفى ..
منذ الساعات الأولى التي جرت فيها محاولة الانقلاب العسكري "الفاشلة" في تركيا، بدا أن ثمة انقساما واسعا في الآراء بين المثقفين والنخب السياسية في العالم العربي. وهذا الانقسام كان واضحا عبر تتبع ما يكتب في منصات التواصل الاجتماعي، وخصوصا موقع "تويتر"؛ حيث راح المستبشرون بـ"الانقلاب" والكارهون له، على السواء، ينشطون في التعبير عن آرائهم وأمانيهم، تبعا لموقفهم من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية. بمعنى أكثر دقة، أن كثيرا من المثقفين لم تكن مواقفهم السياسية منطلقة من نظرتهم إلى الجمهورية التركية، ككيان وكدولة. وإنما بوصفها قُطرا يحكم بواسطة رئيس جمهورية مؤيد لـ"الإسلام السياسي".
إن الموقف تجاه عملية الانقلاب يجب أن يكون مبدئيا، بمعنى، أنه موقف يتصل برفض تدخل المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية، التي يفترض أن تديرها المؤسسات المدنية المنتخبة وفق القواعد الدستورية المتبعة.
وهو بالتالي موقف مع "الشرعية الدستورية" ضد ما يقوض حكم القانون وديمومة العملية الديمقراطية.
من هنا تم اختزال كثير من النقاش الدائر حول مجريات الأحداث في تركيا، ليكون صراعا بين مؤيدي ومعارضي "الإسلام السياسي"؛ حيث اتهم "الإسلاميون" مخالفيهم من "الليبراليين" بدعم "الانقلابيين"، فيما اتهم الليبراليون، "الإسلاميين" العرب بأنهم أشخاص محزبون يوالون "الإخوان المسلمين".. لتبدأ موجة جديدة من الجدل العقيم، وتبادل الاتهامات والشتائم، دون الوصول إلى نتيجة علمية في النقاش!.
ما سبق يعكس حال الانقسام الواسعة في الشارع العربي، وكيف أن هذا الانقسام طاول حتى النخب الثقافية والسياسية، التي يفترض أن تكون على قدر كبير من الوعي والحكمة، وتفكر بشكل سياسي استراتيجي، ولا تنساق وراء العواطف والغرائز والأحكام المستعجلة.
إن التوترات التي تعيشها المنطقة تحتاج إلى عقل "تواصلي"، يستطيع أن يحاور الآخر، ويتواصل بشكل هادئ معه، حتى يستطيع كل طرف بناء الثقة المتبادلة، ونسج شبكة أمان تحمي الشرق الأوسط من المخاطر المباشرة التي تشكلها التنظيمات المتطرفة والمسلحة.
إن استقرار تركيا هو مصلحة إقليمية لجميع الدول في الشرق الأوسط، فالمنطقة التي تجتاحها الحروب والاضطرابات والإرهاب منذ عدة سنوات، لن تستطيع أن تتحمل انهيار دولة بحجم ومكانة تركيا. ومن مصلحة الدول الإقليمية الكبرى، أن يكون الحكم في أنقرة مستقرا، حتى لو كانت سياسة رجب طيب أردوغان لا تعجب الجميع. لأن المهم هو حفظ "كيان الدولة" وليس شخص أردوغان، بما لديه من مواقف وتصريحات خلافية.
على النخب في العالم العربي أن تغير من آلية عملها وطرائق تفكيرها، فهي تمنح "الحرية" لمن يشابهها في الرأي، فيما تسلبها عن المخالفين. وهي بذلك تمارس عملية انتقائية، وترسخ الاستبداد متناسية أن الإيمان بالتعددية، وحرية التعبير، واحترام حقوق الإنسان، والاحتكام للقانون، هي من أبجديات الديمقراطية التي يدعي الليبراليون والإسلاميون الاحتكام إليها.
أمر آخر في هذا الصراع الغرائزي بين النخب، أنه يستورد قضايا من خارج الحدود، تتجادل عليها داخليا في دولها. وهي بذلك تزيد من انقسام المجتمعات المحلية، وتجعل منسوب التوتر مرتفعا، عوض أن تسعى لتخفيف الاحتقانات المتراكمة.
عدم قدرة النخب العربية على علاج مشكلاتها، وصراعها على استقطاب شرائح شعبية أوسع هو ما يجعلها تهرب إلى ما وراء الحدود، باحثة عن قضايا لا تمسها بشكل مباشر، لكنها تدغدغ الجماهير، وتستطيع من خلالها أن تشد عصب "الجماعة"، وذلك يعود في جانب منه إلى غياب مفهوم "الدولة" لدى هذه النخب، التي تفكر بعقلية أقلوية وحزبية. وهو التفكير الذي يعاب عليه تغليب الأيديولوجيا على القضايا الوطنية المحلية، التي هي أولى بأن تكون محل نقاش حقيقي وجدي.
جريدة الرياض
أضيف بتاريخ :2016/07/22