عبدالرحمن مرشود  ..

اطلعت مؤخرا على مقال يتناول فيه أحد الكتاب السعوديين مسألة التطبيع من إسرائيل بلغة حاول أن ينحو بها منحى عمليا وواقعيا بعيدا عن الانفعال الخطابي كما يزعم. ولأني لست مسؤولا عن النوايا ولا أرى نفسي وصيا أخلاقيا على أحد في هذه القضية تحديدا، سأحاول نقاش ما أثاره بالنسق نفسه تقريبا محاولا تحييد عاطفتي قدر المستطاع بهذا الخصوص.

يزعم المقال أن رفض التطبيع سياسة أثبتت عقمها ولم ينتج عنها سوى الدمار لإخوتنا الفلسطينيين في حين أن الطرف المقابل جنى الكثير من المكاسب تحت ظل الوضع القائم، وأن التطبيع هو ما سيقلب الطاولة لمصلحة إخوتنا هناك، إذ يمكننا الدخول من بوابته لتقديم الكثير من الدعم لهم، كما أنه سيمكننا من تجاوز مرحلة العداء بكل أعبائها والتفرغ لمجالات التنمية في المنطقة.

إني أرى الجزء الأعجب في هذا الطرح متعلق بما يقتضي من افتراض الغفلة والسذاجة في سلوك الطرف الإسرائيلي الذي يسعى إلى تغيير وضع هو مستفيد منه في الحقيقة إلى وضع آخر قد يؤدي إلى تقوية الطرف الآخر في الصراع دون توصله إلى فهم ما يزعم استيعابه دعاة التطبيع من العرب!

إذا كانت الأمور كلها بخير بالنسبة للصهاينة فلماذا نراهم يدعمون كل جهد تطبيعي يروجه هؤلاء؟ أليس الأولى بهم تجاهل المحيط العربي تماما مع الانفتاح الاقتصادي على العالم بأسره، خصوصا أن هذا المحيط لا وزن له في المعادلة، كما يحاول كاتب المقالة إفهامنا إياه؟

إن نظرة جادة ومدققة إلى أوضاع الداخل الإسرائيلي قد تحمل لنا إجابة خلاف ما يصوره هذا الكاتب. تابعتُ مؤخرا الكثير من الدراسات المتعلقة بثلاثة جوانب من القضية وهي جانب الموارد الاقتصادية وجانب القوى السياسية الداخلية وأخيرا الجانب الديموجرافي (السكاني)، وأزعم أن سبر الجوانب الثلاثة يؤدي إلى النتيجة نفسها، وهو أن التطبيع مع المحيط العربي يقدم الكثير من الحلول المرحلية لأزمات حقيقية يمر بها الكيان الصهيوني حاليا، شريطة أن يحمل هذا التطبيع: الاعتراف بيهودية الدولة، والتخلي عن حق العودة، والانصراف عن المطالبة بالتراجع إلى الحدود المشرعة وفق القرارات الدولية. سأحاول تلخيص ذلك عبر تناول بعض الجزئيات في أكثر من مقال. منها الجزئية التي سأتطرق لها في هذا المقال بطبيعة الحال، وهو أن إسرائيل قد فشلت بالفعل في خلق شعب يشعر بوحدة الهوية والمصير رغم كل أجهزتها الدعائية المسخرة لذلك. ما زال أغلبية من يوصفون بمواطني ذلك البلد ينظر الفرد منهم إلى بقائه بشكل مشروط بطريقة العيش الموفرة له مقارنة بالعروض البديلة التي توفرها بلدان الرفاه الغربية عند أول خيار للهجرة، خصوصا أن معظمهم على درجة من التأهيل المعرفي والاقتصادي الذي يتيح له ذلك، وهذا ما أدى إلى الكثير من معاناة الكيان المنعكسة عن نزف الهجرة المعاكسة. الاستثناء الوحيد في ذلك هم ذوي النزعات الحريديمية (اليهودية المتدينة) وليس هذا بالأمر الجيد بالنسبة لإسرائيل لأن هؤلاء إضافة إلى عدم كفاءتهم الوظيفية لا يشكلون أغلبية في إسرائيل، سواء على صعيد الأثر أو التعداد. لذلك على إسرائيل عبء اقتصادي يفوق غيرها من الدول، فاستمرار وجود شعبها ليس مشروطا بتحقيق الكفاية الاقتصادية، بل بتحقيق درجة عالية من الرفاه. من ناحية أخرى، فإن هؤلاء السكان الذين هم أقرب إلى صفة العمالة المؤقتة من صفة المواطنين لديهم قلق دائم من خطر المحيط العربي وأبعاد الصراع مع الفلسطينيين، وهم مختلفون في ذلك عن جيل التأسيس الأول الذي كان مدفوعا بعوامل اضطرارية متعلقة بمأساته في أوروبا دفعته إلى أن يستميت من أجل البقاء في مكان يعد من أكثر الأماكن أمنا بالنسبة له حين ذاك. قد تغير كل هذا الآن، لأنهم لا يتواجدون في البقعة الأكثر أمانا، خصوصا بعد ارتفاع مستويات حقوق الإنسان في العالم الغربي وتعود المزاج الأوروبي على تجريم معاداة السامية من جهة، ووصول الكثير من الكوادر الإسرائيلية إلى درجات من التأهيل تغري المواطن الأخرى باستقطابها من جهة أخرى (خصوصا أستراليا والولايات المتحدة وكندا، كما تبين جداول الهجرة الإحصائية). كان من الممكن أن يكون هذان العنصران عاملا قوة لإسرائيل لو نجحت في خلق هوية جامعة ومتجانسة للأطياف المتواجدة فيها ولكن هذا لم يحدث في الواقع. تحتاج إسرائيل المزيد من المزاج المُطمئِن لسكانها وهذا ما يتطلب الوصول إلى عناوين موحية بالاستقرار بالإمكان ترويجها عبر العمل على تطبيع علاقاتها بالمحيط دون الإضرار بالشعار اليهودي للدولة والذي لا يمكن التخلي عنه وإلا لوجدت نفسها معرضة لحالة من الابتلاع الديموجرافي أمام توافد غير اليهود وتفوق الفلسطينيين الهائل في معدلات الإنجاب.

صحيفة الوطن أن لاين