آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمد عبد الله محمد
عن الكاتب :
كاتب بحريني

هل من المستحيل أن يحدث هذا؟!

 

محمد عبدالله محمد ..

على هامش القمة العربية الأخيرة في نواكشوط أجرت قناة روسيا اليوم (أر تي) لقاء مع الوزير المسئول عن الشئون الخارجية العماني يوسف بن علوي بن عبدالله. المقابلة تناولت العديد من القضايا الإقليمية والدولية، لكن من بين أهم ما سُئِلَ عنه الوزير هو الشأن العماني الداخلي.

 

سأله الزميل محمد بدّين قائلاً: يتساءل الكثيرون في العالم العربي بل وفي العالم كله عن هدوء الإنسان العماني، هدوئه في تعاطيه، وتروّيه تجاه مختلف القضايا، تُرى ما هو السّر في هذا الهدوء الذي ميّز العمانيين وهم الشعب المنوّع طائفياً وثقافياً وعرقياً. تلك السِّمة التي أبعدتهم عن كل هذا الجو العربي (المشحون) حتى باتوا بمثابة الحلم أو على الأقل الضوء الذي يُرى في آخر النفق؟

 

أجابه الوزير العماني بحصافته المعهودة قائلاً: «هذا الأمر متاح للجميع. إذا أردتَ أن تعيش مثل هذا الجو (الهدوء والتروّي والابتعاد عن المشاكل) فهو متاح لك. نحن في عُمان لا نجد في فكرنا ولا في فكر العقيدة الإسلامية والثقافة العالمية ولا في المصالح المشروعة أيّ شيء يمكن أن تتمسك فيه ويُدخلك في صراع. هذا غير موجود. (انتهى).

 

الحقيقة، أن ما قاله الوزير العماني يدفع المرء للتأمُّل والتساؤل: لماذا لا تستطيع الكثير من الدول العربية والإسلامية أن تكون مثل فهم العمانيين في طريقة إدارتهم لأمورهم الداخلية، بحيث جعلت بلادهم واحة آمنة في بيئة دينية وسياسية متوترة؟!

 

وأمام ذلك السؤال الكبير يُبنَى سؤال آخر: لماذا لا نستطيع (نحن كشعوب ودول) أن نكون هادئين مثلهم في تعاطينا الديني والسياسي حتى عندما يقتربون من أهم شيء يحدد علاقات الأفراد والدول وهو المصالح؟ هذا سؤال مركزي يجب أن نسأل به أنفسنا.

 

باعتقادي أن هناك مشكلتين أساسيتين تتعلقان بذلك وتتصلان بالمفهوم الصحيح لنسج تلك العلاقة الخالية (كما نتمنى) من بذور الصِّدام والخلاف وانعدام الثقة. الأولى تتعلق بالدولة كمؤسسة ناظمة لكل العلاقات الاجتماعية والتحولات والتناقضات التي تنتج عن الأفراد وحركتهم في التاريخ، والثانية تتعلق بالنخب السياسية والثقافية وخطابها العام.

 

في المشكلة الأولى، فإن أكبر خطأ تقع فيه الدول هو انحيازها الطائفي أو العرقي في طريقة إدارتها للناس وللمؤسسات. كنت أقول بأن الدولة يجب ألَّا تتجزأ. وهي أيضاً لا تنحاز اجتماعياً إلى طرف دون آخر. وهي حين تتجزأ أو تنحاز، لا تصبح دولة، بل تصبح إقليماً داخل دولة، يتجانس فيه الحكم الضيِّق مع مَنْ ينحاز إليهم طائفياً وعرقياً واجتماعياً، ليبقى الآخرون خارج ذلك الإطار «ضمنياً».

 

وكنتُ أضيف على ذلك بأن خطر انحياز الدولة الطائفي والعرقي والاجتماعي (وتالياً السياسي بطبيعة الحال) هو في أساسه قائم على تحالفها مع طائفة/عرق بعينه، تستند إليه في الهوية والانتماء، وتتأثر بعوارضه، وتلتزم بنمطه الثقافي والنفسي، وبالتالي، هي تتحوَّل بشكل آلي، ومن دون وعي، باتجاه الوطنية المشروخة والعرجاء، التي تبعث برسائل للآخرين بأنكم خارج التغطية.

 

وعندما تنتجِب الدولة وتختار قطاعاً طائفياً محدداً من شعبها تتعاضد معه في الحكم ضد الآخر، يفضي ذلك بشكل آلي إلى صناعة سياسة حتمية ومقيتة تقوم على نظام الامتيازات، أو النظام التفضيلي التمييزي الانتقائي في الوظائف والعطاءات، فتصبح الطائفة «المنتجَبَة» التي تتأمّر وتتسيّد على المناصب القيادية والمهمَّة في الدولة، بكل أجهزتها، في قِبال آخرين مُهمَّشين.

 

هذا الانحياز من الدولة وظهور نظام الامتيازات في ظل وجود مجتمع متنوع يخلق مشكلة عميقة، تتلخص في ظهور كتل ديمغرافية ومساحات جغرافية تشعر أنها لا تستظل بتلك الدولة، ولا تأمن منها حتى، بل وتعتبرها مستهدِفة لها فتلجأ إلى اختصامها في معركة وجود، بعد أن أصبحت في نظرها دولة غير ميثاقية ولا ممثلة لها وغير متمثلة هي فيها، ولذلك يغيب الإجماع الأوسع.

 

زيادة على ذلك، فقد تبدأ تلك الكتل الديمغرافية المهمَّشة التي أزيحت من تحت ظل الدولة وحمايتها في التسرُّب رويداً رويداً نحو زوايا تعتقد أنها قادرة على تغطيتها وتأمينها، لذلك تتفاجأ الدولة المنحازة طائفياً بأن هناك ولاءات جديدة بدأت تظهر.

 

المشكلة الثانية وهي المتعلقة بالنخب السياسية تتلخص في طبيعة الموقف من الدولة. فما يجري مع الأسف في «غالب الأمور» أن مواقف النخب سواء الخطابية أو العملية لا تُبنَى إلَّا على «زاوية السَّلب» واستدعاء المثالب. نعم هناك حاجة إلى تقويم السياسات وتبيين النواقص لكن وفي الوقت ذاته لا يُمكن أن يغض المرء «العادي» الطرف عن الأشياء الحسنة، فضلاً عن النخب والقيادت الاجتماعية والسياسية وخلافها.

 

 

إن غياب حالة الإنصاف حتى في أضيق الحدود ينم عن نظرة سوداوية لا تنظر إلَّا في الحيِّز الممحوق من الكأس. في حين أن الصحيح أن نقول هذا شيء حَسَن وذاك شيء سيئ، فهذه ثقافة شافعة إلى التوحُّد، أما الإصرار «الدائم» على المثالب، فهو تعزيز لانعدام الثقة وتكريس الكراه

 

ية، والتخندق في تيه التبرير وعدم مغادرة مواقع المناكفة مهما حصل، وهذه رسائل سلبية.

 

كنا نقول بأن التجارب علمتنا، بأننا كبشر لا يمكن أن يكون هناك مَنْ لم يعمل عملاً جيداً بالمطلق، بالمقدار ذاته الذي لا يوجد فيه أحدٌ لم يعمل عملاً سيئاً بالمطلق. وعندما لا ندرك هذه المعادلة البسيطة، فقد نَتِيهُ في مسائل «العصمة» و «الأبلَسَة» و «التنزيه» و «المثاليات» التي لا تنتهي بنا إلَّا إلى الانفصام والانغلاق.

 

هذه حقيقة يجب أن نلتفت إليها من دون إشاحة وجه، وأن نقبل «على الأقل» مناقشتها بهدوء.

 

لصالح صحيفة الوسط

أضيف بتاريخ :2016/08/22

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد