بريطانيا بين مجد الماضي وحقائق الواقع
د. سعيد الشهابي ..
فجأة تمت الإشارة بالبنان إلى رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، كمسؤول أساسي عما وصلت إليه ليبيا من تمزق واضطراب أمني وسياسي ومركز ثقل جديد للإرهاب الذي تمثله داعش. وفي مطلع هذا العام صدر الانتقاد للسيد كاميرون من الرئيس الأمريكي الذي قال إن بريطانيا بادرت للعمل العسكري مع فرنسا ضد نظام القذافي بدون أن يكون هناك إعداد لما بعد السقوط، الأمر الذي دمر ليبيا وساهم في توسع ظاهرة الإرهاب.
التقارير الإعلامية التي انتشرت الأسبوع الماضي حول دور كاميرون في ما جرى كان مثيرا للاستغراب. فلماذا هذا الانتظار الذي استمر خمسة أعوام لكشف الحقيقة؟ ولماذا تزامن الكشف مع قرار كاميرون اعتزال السياسة الرسمية بالاستقالة من عضوية البرلمان بعد بضعة أسابيع من ترك رئاسة الوزراء؟ لماذا هذا التباين في المواقف بين واشنطن ولندن برغم «العلاقة الخاصة» بينهما؟ وما الذي دفع كاميرون للاشتراك في إسقاط نظام القذافي الذي كان قبل فترة وجيزة من سقوطه يستقبل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، في طرابلس؟ لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان البريطاني وصفت كاميرون بـ «الانتهازي» وجاء فيه: «أن النتيجة انهيار اقتصادي وسياسي، وحروب قبلية ونزاعات مسلحة بين الميليشيات، وأزمات إنسانية ومشكلة هجرة، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وانتشار أسلحة نظام القذافي في المنطقة وتنامي داعش في أفريقيا». لا شك أنها استنتاجات خطيرة تستدعي إجراءات قانونية بحق المسؤولين عن توفير ظروف ما جرى. ولكن السؤال: هل أن التدخل البريطاني في ليبيا حالة شاذة؟ أم استمرار لنمط من التدخلات العسكرية بدون توقف أكثر من مائة عام؟
في الأسبوع الماضي صدرت في لندن دراسة بعنوان «لصوص التاريخ» حول السرية الرسمية في بريطانيا للباحث ايان كوبين، عن الدور العسكري البريطاني في العالم. وهي دراسة موثقة تكشف الكثير من الحقائق. هذه الدراسة تساعد على فهم التدخلات البريطانية العسكرية خصوصا في الشرق الأوسط. الكاتب يتطرق لسياسة الانسحاب البريطاني من مناطق واسعة بعد الحرب العالمية الثانية وآخرها من كافة المناطق شرقي السويس ومن ضمنها منطقة الخليج. ووفقا لتلك السياسة يفترض أن لا تكون القوات البريطانية متواجدة بمنطقة الخليج بعد 1971. ولكن الأمر ليس كذلك.
الدراسة تذكر أن القوات البريطانية بدأت عمليات عسكرية واسعة ضد ثوار ظفار في حزيران/يونيو 1965، ولم يذكر الإعلام البريطاني خبرا عنها إلا في كانون الثاني/يناير 1972، أي بعد ستة أعوام ونصف. فقد فوجئ قراء صحيفة «اوبزيرفر» آنذاك بتقرير عنوانه «هل تخوض بريطانيا حربا سرية في الخليج؟».
وكشفت الصحيفة أن القوات البريطانية يشاركون في الحرب التي يخوضها سلطان عمان آنذاك (سعيد بن تيمور) ضد المتمردين في جبال ظفار، جنوب البلاد. ووفقا للدراسة المذكورة فـ «في الفترة ما بين تموز/يوليو وكانون الأول/ديسمبر 1958، قامت القوات الجوية الملكية بـ 1635 طلعة، وألقت 1094 طنا من القنابل، وأطلقت 900 صاروخ على المتمردين وقراهم ووسائل الري». هذه الكمية تعادل ضعف وزن القنابل التي ألقاها النازيون على مدينة كوفنتري في 1940». أما في السبعينات فنقلت الدراسة عن أحد الضباط البريطانيين قوله: «لقد احرقنا قرى المتمردين وأطلقنا النار على الغنم والبقر… وقمنا بسحل جثث العدو في سوق صلالة لتكون درسا لمن يريد أن يصبح مناضلا». ونقلت الدراسة عن ضابط آخر» في ايرلندا الشمالية تحاشى الجنود قتل غير المقاتلين أو جرحهم، أما في ظفار فلم يكن هناك أبرياء، بل الجميع عدو». وذكرت الدراسة أن البريطانيين بعد الحرب العالمية الثانية تعاونوا مع اليابانيين لضرب ثوار فيتنام. تقول رسالة بعثت لوزير الخارجية آنذاك، ايرنست بيفن تحت عنوان: البريطانيون في الهند الصينية: «يبدو أننا نتعاون مع اليابانيين والفرنسيين ضد القوات الوطنية، فييت مينه». وتتساءل الرسالة: ما هدف هذا التعاون؟ لماذا لا ننزع سلاح اليابانيين؟ ووقع الرسالة ضباط بريطانيون في سايغون.
الدور البريطاني العسكري في العالم يمتد بجذوره إلى أيام الإمبراطورية العظمى. فما بين 1918 و 1939 كانت القوات البريطانية تقاتل في العراق والسودان وايرلندا وفلسطين وعدن. وبعد الحرب العالمية الثانية كان الجنود البريطانيون يخوضون الحروب في اريتريا وفلسطين والهند الصينية وجزر الهند الغربية والملايو ومصر والصين وعمان. وما بين 1949 و 1970 شارك البريطانيون في34 من بؤر الصراع، ثم جاءت حرب الفوكلاند والعراق والبوسنة وكوسوفو وسيراليون وأفغانستان وليبيا بالإضافة لايرلندا الشمالية. وتضيف الدراسة انه خلال المائة عام الماضية لم يمر عام بدون أن تشارك القوات البريطانية في عمليات عسكرية في العالم. وهذا لم يحدث مع الأمريكيين أو الروس أو الفرنسيين أو أية قوة أخرى. وبرغم تراجع تلك الإمبراطورية وفقدها مراكز الثقل الكبرى خصوصا الهند بعد الحرب العالمية الثانية، وقرار الانسحاب من الشرق الأوسط إلا أن بريطانيا ما تزال اللاعب الأكبر بمنطقة الخليج. وفي مقال نشرته صحيفة «ايكونوميست» في 13 كانون الأول/ديسمبر 2013 بعنوان «لقد رجعنا» قال الكاتب: في الحقيقة لم تغادر الخليج أبدا. فلديها علاقات أمنية مع عمان وقطر والمملكة العربية والسعودية والإمارات العربية». جاء ذلك في إطار الحديث عن بناء قاعدة عسكرية بريطانية جديدة في البحرين. ونسبت لوزير الخارجية البريطاني آنذاك، فيليب هاموند قوله: حيث إن الولايات المتحدة أصبحت تركز جهدها بشكل أكبر على منطقة آسيا والمحيط الهادىء، فأننا مع شركائنا الأوروبيين سيقع علينا عبء أكبر في الخليج والشرق الأدنى وشمال أفريقيا».
المشكلة أن تطور الاتصالات يحول دون إبقاء الدور البريطاني سريا، كما حدث في عمان، وأن الأضواء مسلطة على السياسة البريطانية بشكل خاص، وأن البرلمان يبحث عن دور أكبر في قضايا الحرب والسلام ليمارس دورا حقيقيا وليس شكليا. وطوال العقود السابقة بقيت قرارات الحرب بأيدي الحكومة ولم ترجع للبرلمان بشأنها. ولم يعط البرلمان دورا في قرارات الحرب إلا مؤخرا وبشكل لا يبدو ملزما. ففي يوليو 2007 أعلن رئيس الوزراء آنذاك، غوردون براون، سلسلة من التغيرات الدستورية من ضمنها أعطاء البرلمان القرار النهائي لإعلان الحرب. جاء ذلك في إثر تصاعد الرفض الشعبي للتدخل البريطاني العسكري في العراق وأفغانستان. ولذلك عرض ديفيد كاميرون في آب/أغسطس 2013 مشروع التدخل في سوريا على البرلمان الذي رفضه. وقيل أن ذلك الرفض هو الأول منذ العام 1782. وعلق كاميرون على ذلك القرار قائلا: أصبح واضحا لدي أن البرلمان البريطاني، الذي يعكس آراء المواطنين البريطانيين، لا يريد عملا عسكريا بريطانيا. وقد فهمت ذلك وسأعمل بمقتضاه».
التدخلات العسكرية البريطانية كانت، منذ قرون، تهدف لتوسيع نفوذ بريطانيا في العالم. وفي ذروة الإمبراطورية كانت أساطيلها تمخر البحار والمحيطات شرقا وغربا. وجاء التدخل البريطاني بمنطقة الخليج قبل أكثر من قرنين لدعم الأسطول التجاري لشركة الهند الشرقية التي كانت تقطع البحار ما بين بريطانيا والهند. وحين تعرضت تلك الأساطيل للقرصنة تدخلت تدريجيا لوقف تلك الأعمال، وبدأ نفوذها يتصاعد بمنطقة الخليج، واستمر حتى العام 1971. وجاء قرار الانسحاب الذي أصدرته حكومة ويلسون في 1968 في ظل أوضاع اقتصادية ضاغطة، ولكن انحصر الانسحاب على الجانب العسكري. وبقيت العلاقات الأمنية والسياسية بدون أن يطرأ عليها تغييرات كبيرة. واستمرت الرعاية البريطانية في الجوانب الأمنية على نطاق واسع.
ماذا تعني هذه التطورات؟ ثمة حقائق تستوقف من يراقب تطورات النفوذ البريطاني خارج الحدود، أولها: أن بريطانيا ما تزال تتطلع لتوسيع نفوذها خارج حدودها، وتستحضر ذاكرة حكامها أيام الإمبراطورية التي كانت الشمس لا تغيب عنها. ثانيها: أن ثمة صراعا يحتدم بين «المؤسسة» التي تمثل النخبة الارستقراطية التي تسعى للحفاظ على نفوذها التاريخي محليا ودوليا، والشعب الذي يعيش أوضاعا اقتصادية صعبة ويشعر بالفجوة المتصاعدة بينه وبين تلك النخبة. ثالثها: أن النخبة أخطأت حين سعت لتضليل الشعب بان مشاكله ناجمة عن تصاعد ظاهرة المهاجرين، فاندفع ليطالب بالانفصال عن أوروبا لوقف تلك الظاهرة.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/09/19