الساسة يشعلون الحروب والشعوب تدفع الثمن
د. سعيد الشهابي ..
يؤكد التاريخ البشري أن الصراعات المسلحة في الأعم الأغلب يقررها «الكبار» ويدفع «الصغار» ثمنها. والأثمان هنا مرتفعة جدا، فهي ليست مادية فحسب، بل بشرية وإنسانية وأخلاقية. يصدق هذا الادعاء على الحروب التي حدثت ماضيا وتلك التي شهدها العالم في العصر الحاضر. ونادرا ما تستفتى الجماهير لإبداء رأيها حول إشعال النزاعات المسلحة، فهو قرار تتخذه النخب الحاكمة، سواء كانت ديمقراطية أم استبدادية. صحيح أن ديفيد كاميرون عرض اقتراح المشاركة في الحرب السورية على البرلمان في العام 2013، بناء على إجراءات اقترحها سلفه، غوردون براون، ولكن هذا الأمر لن يتكرر كثيرا، كما انه حدث في ظروف ساد اللغط فيها عالم السياسة البريطاني بعد أن ورط توني بلير بلاده في حرب العراق، بالإضافة لخشية كاميرون نفسه من تبعات التدخل في منطقة خارج نطاق النفوذ البريطاني.
والحرب في سوريا التي تدور رحاها منذ خمسة أعوام، هي الأخرى، لا يمكن أن تخدم مصالح شعبها، خصوصا بعد أن أصبحت حربا بالوكالة تشارك فيها أطراف كثيرة. ولا يمكن فصل ما يجري في الشام عن صراع النفوذ والمصالح بين الدول الكبرى والإقليمية. وما كان لهذه الحرب أن تتوسع لو امتنعت الأطراف الخارجية عن التدخل، سواء الدول أم المجموعات أم الأفراد. وأهداف هذه الحرب لم تعد محصورة بتطوير النظام السياسي فيها، بل أنها تتعدد بتعدد الأطراف المشاركة. ولا يعتقد أنها تهدف لتحقيق إصلاح سياسي للنظام السوري، إلا المغفلون الذين يعتبرون توسعها امتدادا للاحتجاجات التي انطلقت في ذروة الربيع العربي قبل أكثر من خمسة أعوام. فلكل من الأطراف والمجموعات هدفه المتميز. البعض يضفي عليها طابعا مذهبيا، والآخر يعتقد أنها صراع نفوذ بين القوى الإقليمية، والثالث يرى أنها تحولت إلى محاولة لإعادة بناء التوازن الاستراتيجي في المنطقة، والرابع يربطها بالسعي الغربي لحماية الكيان الإسرائيلي بتدمير آخر محاور المقاومة. كما لا يمكن فصلها عن سعي روسيا للحفاظ على ما بقي لها من نفوذ في الشرق الأوسط. والخامس يروج حسن النوايا الأمريكية والبريطانية والحرص على الدفاع عن الشعب السوري وضمان حقوقه.
الأمر المؤكد أن مصالح الشعب السوري هي آخر ما يسعى الفرقاء لتحقيقه. فالمنطق السوي يرى أن الكارثة الإنسانية التي تعرض لها هذا الشعب تفوق كثيرا الثمن المعقول لما قد يتمخض عنها من منافع. فقد قتل أكثر من 300 ألف من السوريين، واضطر أكثر من سبعة ملايين للنزوح، وهاجر أكثر من مليون إلى خارج الحدود. كما اكتظت المخيمات باللاجئين السوريين في العراق والأردن ولبنان وتركيا. الحرب السورية أصبحت كارثة على الشعب السوري أولا وعلى الأمتين العربية والإسلامية ثانيا، وعلى الإنسانية ثالثا.
كما أن حضارة الشام وتاريخه تعرض لدمار واسع، بالإضافة لتدمير الهوية التاريخية لهذا البلاد الموغل في التاريخ البشري. ولكن ماذا عما يجري في العراق؟ فما حدث في ارض الرافدين لا يقل عما يجري في بلاد الشام، من قتل وتمزق وحرب على الهوية واستهداف للسيادة. يجري ذلك بمرأى العالم ومسمعه. وما يزال العراق بانتظار المزيد من الصراعات الدموية، والتهديد المتواصل بالتمزيق والتفتيت. ولا يستطيع من ينظر بعين باصرة التغاضي عن المحاولات المتواصلة لتفتيت هذا البلد الكبير الذي تعايش أهله قرونا واحتضنوا الاختلافات العرقية والدينية والمذهبية دون أن تؤثر على الكيان الجامع لها جميعا. وإذا كان بالإمكان طرح الانتماء المذهبي كواحد من عوامل الصراع في العراق والشام، فماذا عن ليبيا المهددة، هي الأخرى، بالتفتيت؟
وماذا عن السودان الذي كان أولى تجارب التقسيم والمهدد بتقسيم آخر بسبب الصراع المحتدم في دارفور. وهل يمكن اعتبار اليمن خارج هذا المسلسل؟ فهذا البلد يعاني، هو الآخر من حرب مدمرة امتدت قرابة العشرين شهرا ارتكبت خلالها جرائم حرب شنيعة (وآخرها ما حدث يوم السبت الماضي عندما قصفت قوات التحالف بقيادة السعودية مجلس عزاء وسط العاصمة، صنعاء، وقتل حوالي مائة شخص وجرح أكثر من 500). وأصبحت قطاعات واسعة من شعبها مهددة بالمجاعة. اليمن، هو الآخر، مكون أساسي لأمتي العرب والمسلمين، بتاريخه وثقافته وموقعه الاستراتيجي. مع ذلك تتواصل الحرب فيه بدون توقف، وتتواصل معاناة شعبه على كافة الصعدان: الإنسانية والسياسية والاقتصادية.
من يصنع الحروب؟ ولماذا تم تغييب الشعوب جملة وتفصيلا عن القرارات التي تؤثر على مصائرها؟ وهل يمكن ربط ما يحدث في بلدان العرب عما حاولت شعوبها تحقيقه حين انتفضت من اجل الحرية؟ أليس ما تعانيه ثمنا باهظا لمحاولة لم يكتب لها النجاح؟
أربعة عناوين عريضة تطرح لتفسير ما يجري في المنطقة اليوم. الصراع الأمريكي ـ الروسي، الخلافات المذهبية، الحرب على الإرهاب، السباق من اجل النفوذ الإقليمي بين إيران والسعودية. ويمكن دعم كل من هذه الأطروحات بوقائع يومية من شوارع بغداد ودمشق وحلب وسرت ودارفور وتعز لتأكيد واحد أو أكثر من العناوين المذكورة.
وفي الوقت نفسه يمكن تفنيد هذه الدعاوى أو تأكيدها. الأمر الذي يقره الكثيرون أن شعوب الأمة هي التي تدفع الثمن، بينما تتمتع حكوماتها بحالة استقرار كادت تفقدها في ذروة الربيع العربي. وفي الوقت نفسه يمكن دحض اغلب المقولات التي تنسب احتدام الصراع لابناء الأمة، بدعاوى الاختلافات الدينية أو المذهبية. فلم يكن هناك صراع ديني حاد بين المسلمين أو المسيحيين قبل الربيع العربي وخلاله، ولا تتضمن ذاكرة الجيل الحاضر مصاديق لصراع مذهبي في التاريخ المعاصر، بلغ هذه الحدة الدموية. كما أن التوازن الاستراتيجي بين القوى الكبرى ليس محصورا بتواجدها في بعض مواقع الصراع خصوصا سوريا والعراق.
أما الحرب على الإرهاب التي أعلنتها الولايات المتحدة قبل خمسة عشر عاما، فلا توجد مصاديق في الصراعات المحتدمة لتأكيد جدية الفرقاء في التصدي لها. بل ربما العكس هو الصحيح. فقد توسعت دائرة الإرهاب والعنف كثيرا وتجاوزت ما كان يحدث قبل 11 سبتمبر. والاهم من ذلك، انه إذا كانت الحرب على الإرهاب قد انطلقت بهدف تدمير تنظيم «القاعدة» فان الوسائل التي انتهجت في السنوات الخمس الأخيرة بدأت تؤتي ثمارا عكسية. فقد اعتبر الكثيرون أن ظاهرة «داعش» مفتعلة بهدف جر البساط من تحت تنظيم «القاعدة» الذي صاغ إيديولوجيته على أساس استهداف الغرب بشكل مباشر، وجسدت عمليات 11 سبتمبر ذلك التوجه بشكل لا يقبل التأويل. وطرحت نظرية مهمة لم يلتفت لها الكثيرون مفادها أن الهدف من تشكيل ذلك تنظيم «داعش» في أساسه القضاء على القاعدة التي أسسها أسامة بن لادن، وذلك بإعادة توجيه بوصلة الإرهاب باتجاه الداخل العربي والإسلامي، وأبعادها عن استهداف الغرب. وثمة مؤشرات ظهرت مجددا بأن القاعدة بدأت تجدد نفسها وتستعيد أهدافها الأساسية باستهداف الغرب. فقد ظهرت نداءات متكررة من زعيمها الجديد، حمزة بن أسامة بن لادن، تؤكد ذلك المنحى. وقد فهم الغربيون ذلك، فأصبحوا اقل حماسا لاستهداف المجموعات المسلحة التي تتبنى إيديولوجية «داعش». وهذا واضح في السياسات الغربية في كل من العراق وسوريا. وما استهداف تركيا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة إلا أحد جوانب إستراتيجية مضطربة ابتدأت بإعلان الحرب على الإرهاب، ثم دعمت مجموعات التطرف التي تستهدف وحدة الأمة بسياساتها العنيف، ثم أصبحت تستهدف تلك المجموعات حين بدأت تستهدف الدول الغربية (بلجيكا وفرنسا وبريطانيا).
ويبدو أن تلك المجموعات جمدت توجهاتها ضد الغرب وعادت للتوجه نحو الداخل العربي والإسلامي. ولذلك يمكن اعتبار عودة الحياة لتنظيم القاعدة بداية مقلقة جدا للإستراتيجية الغربية.
ماذا يعني ذلك؟ أن السياسات التي انتهجت في السنوات الخمس الأخيرة ربما وصلت نهايتها بعد أن أحدثت إضرارا واسعة بالأمتين العربية والإسلامية. لكن آثارها لم تنحصر هنا، بل أن الغرب بدأ يشعر أن تلك السياسات ربما أدت لنتائج عكسية، وان صياغة السياسات وفقا لمصالح آنية بعيدا عن المبادىء والقيم لا تمثل حنكة، بل يمكن اعتبارها خيانة للقيم وغدرا بالمبادئ.
وثمة مسألة جوهرية يفترض أن تتبوأ موقعا متقدما في الاستراتيجيات الغربية، وهي أن أضعاف كيانات المسلمين سواء بالعنف والإرهاب أم تغييب إرادات الشعوب ومنع الحرية والديمقراطية، والتنكر لقيم حقوق الإنسان، وعدم التصدي للعدوان والاحتلال أو عدم الدعوة لوقف الحروب، إنما يوفر بيئات مناسبة لتنامي التطرف والعنف، ويعمق الشكوك حول الغرب وسياساته. فمن أسباب الظواهر السلبية في العالم العربي غياب القيادات السياسية والدينية القادرة على توجيه الطاقات نحو البناء والتطور وإقامة منظومات سياسية وإنسانية تبث الأمن والاستقرار في النفوس، وتوجه طاقات الشباب نحو الخير والبناء.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/10/10