سراب الانفراج العربي مع تعمق الاحتقان
د. سعيد الشهابي ..
يندر أن تتزامن تطورات «ايجابية» أربعة على صعيد العالم العربي في أسبوع واحد. هذا ما حدث الأسبوع الماضي. فماذا تعني؟ وهل يمكن اعتبارها بداية للخروج من النفق المظلم الذي دخلته شعوب المنطقة بعد ضرب ثورات الربيع العربي؟ فبرغم استمرار الشد والجذب على صعدان شتى ذات علاقة بالشرق الأوسط، حدث ما لم يكن في الحسبان.
أول هذه التطورات التوافق على هدنة مؤقتة في حلب ومحيطها للسماح بدخول الإغاثة لسكانها المهددين بالموت. ثانيها: موافقة السعودية على وقف إطلاق النار في الحرب على اليمن استجابة للطلب الأنكلو أمريكي بعد اجتماع مهم في منتصف الشهر في لندن. ثالثها: الإعلان عن توافق لبناني حول الرئيس بعد أكثر من عامين من الركود والتجاذبات السياسية.
رابعها: بدء عملية تحرير الموصل ضمن توافق عربي ودولي لاحتواء ظاهرة الإرهاب التي أصبحت تهدد العالم بشكل يفوق مستوياته السابقة. وبموازاة تلك التطورات «الايجابية» ثمة تداعيات متواصلة لازمات تزداد عمقا. فالخلاف التركي ـ العراقي يتطور بعد نشر قوات تركية بمنطقة «بعشيقة» بالقرب من الموصل، ومطالبة تركيا بالمشاركة في عمليات تحرير الموصل.
ثانيها: تصاعد الخلاف بين مصر والسعودية منذ عقد مؤتمر غروزني الذي شاركت مصر فيه بحضور شيخ الأزهر نفسه. ثالثها: تصاعد الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا بسبب الدور الروسي المتنامي في المنطقة وإصرار روسيا على استهداف كافة المجموعات المسلحة في سوريا، ومن بينها المدعومة من الغرب.
رابعها: تعمق الأزمة الاقتصادية بدول مجلس التعاون نتيجة تراجع أسعار النفط وزيادة الإنفاق العسكري وتراجع معدلات النمو الاقتصادي فيها. ومن الصعب التوصل إلى نتيجة حاسمة حول ما إذا كانت هذه التطورات بمجملها دافعا للأمل أم اليأس. وإذا أضيف إلى ذلك أربع حقائق أخرى، فسوف يتضح عمق التعقيدات التي تلف الوضع العربي عموما. أولا: تجميد استحقاقات الإصلاح المطلوب بعد الربيع العربي، وما ينطوي عليه من تعمق ظواهر الديكتاتورية وانتهاك حقوق الإنسان. ثانيا: استمرار دق الأسفين بين ابناء الأمة الواحدة وفق خطوط التمايز العرقي والمذهبي، بعد أن أثبتت التجربة أن ذلك يحول دون انتشار الوعي الجماهيري الذي يعبر عن نفسه عادة بالتمرد والثورة على الوضع السياسي القائم ومنظومة الحكم العربية. الثالثة: تراجع دور النخبة الواعية ذات الثقافة والوعي والانتماء الفكري والديني القادرة على لجم جماح التطرف وتوجيه بوصلة الشعوب نحو الحرية والعطاء بدلا من الاستبداد والقابلية للتدمير. الرابعة: انعكاسات تداعي الأوضاع الاقتصادية والسياسية في الغرب، وتوجه بعض دوله نحو المنطقة لسلب ثرواتها مجددا واستقطاب ما بقي من أموال أما تحت غطاء الصفقات العسكرية أم بعنوان الاستثمار.
في ظل هذه الحقائق الموزعة على محاور ثلاثة يصعب الخروج باستنتاج لتوصيف دقيق سواء لواقع الأمة أم استشراف مستقبلها، أم التبنؤ بما ستؤول إليه العلاقات الدولية في ضوء الحرب الباردة المتصاعدة بين القطبين الأساسيين في السياسة الدولية. وإذا أضيف إلى ذلك تكرر الحديث عن حرب عالمية ثالثة، فإن الحقائق المذكورة ترجح أن يكون الشرق الأوسط ميدانها الأساسي. فالعودة الروسية للمنطقة بعد ربع قرن من سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الفصل السابق من الحرب الباردة، أحدثت إستقطابات جديدة وضعت الدول العربية والإسلامية الكبرى في مواقع متضادة على طرفي السباق على النفوذ. فإذا كانت دول كالسعودية ومعها اغلب دول الخليج محسوبة على المعسكر الغربي بشكل واضح، فإن دولا أخرى مثل إيران وسوريا أصبحت متحالفة مع الروس.
وبعد مسلسل من إخفاقات الدبلوماسية الأمريكية، ومواقفها المتأرجحة، جنحت تركيا ومصر نحو ذلك المحور. ومع أن من الصعب الجزم بوجود معسكرين واضحي المعالم والأهداف والحدود، فثمة تحسس لدى الغربيين من تراجع دورهم في المنطقة لصالح الروس. الأمر المؤكد أن لكل من الدول المذكورة التي توجهت شرقا أسبابه. فإيران منذ تغير نظامها السياسي في 1979 أصبحت أقرب إلى روسيا، إلى المستوى الذي دفع الإمام الخميني لإرسال رسالته التاريخية في 1989 للرئيس السوفياتي السابق، ميخائيل غورباتشوف، يحثه فيها على إعادة قراءة الإسلام. والتقت المصالح الإيرانية والروسية في السنوات الأخيرة على الأرض السورية، وتركيا شعرت بالامتعاض كثيرا بعد أن خذلها الغربيون عندما تعرضت لمحاولة انقلاب فاشلة، بينما كان للروس والإيرانيين (وفقا لتسريبات غير مؤكدة) دور في كشف الانقلاب وإطلاع الرئيس التركي، طيب أردوغان، عليه قبل تنفيذه. أما مصر فتسعى لإحداث توازن في سياساتها الخارجية بتمتين العلاقات مع روسيا، بشراء السلاح والتبادل التجاري والتعاون السياسي.
إن من الخطأ الكبير الاعتقاد بأن روسيا ستكون حليفا دائما للعرب والمسلمين، ولكن السياسة تفرض صداقات مؤقتة أما لإسباب طارئة أو انتقاما لأطراف أخرى أو أملا في تغيير سياسات أطراف غير ودية تجاهها. ولكن الخطأ الأكبر اعتبار أمريكا حليفا حقيقيا. فتجربة أكثر من نصف قرن كشفت طبيعة السياسة الأمريكية التي ما تزال ملتزمة بمبدأ ثابت: ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي على العرب.
أمريكا وقفت مع الكيان الإسرائيلي في كل حروبه على العرب، ودعمته بالسلاح والمعلومات، واستخدمت الفيتو لإسقاط القرارات الدولية التي تطالبه بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية. لكن المشكلة الرئيسية، كما كانت دائما، متأصلة في الكيانات العربية التي نشأت قبل مئة عام في أوضاع تلك الحقبة التي تتكرر في الوقت الحاضر: الحرب العالمية الأولى، سايكس بيكو، سقوط الخلافة، تعمق الوجود الاستعماري، استهداف الوعي القومي العربي. اليوم تعيش كيانات العالم العربي أوضاعا مشابهة: مواجهة أطماع الآخرين من الغرب والشرق في أراضيهم وثرواتهم، توسع النفوذ الغربي متمثلا بالقواعد العسكرية التي أقيمت في أغلب بلدان المنطقة، تعمق الفجوة بين الشعوب والحكومات بسبب غياب الممارسة الديمقراطية، استسلام النظام السياسي العربي أمام الصلف الإسرائيلي الذي يوسع وجوده بتوسيع مشاريع الاستيطان، تغييب إرادة الجماهير وإبعادهم عن دوائر القرار، مع استمرار الاضطهاد والقمع والاستبداد، توسع الفتنة وأسباب التمزق الداخلي بدلا من التوحد وتقوية الصف لمواجهة الطامعين في هذه الأمة وأرضها وثروتها وهويتها.
من هنا يبدو حدوث عدد من الانفراجات على صعيد القضايا المعقدة التي تعصف بالعالم العربي، أمرا خارجا عن المألوف. فهو سبب للتفاؤل إذا كان ينطوي على تغيرات حقيقية في عقلية ذوي التأثير على مسارات تلك القضايا، ولكن الخشية أن يكون التزامن عفويا ولا ينطوي على ما يمكن استنباطه من ايجابيات ميدانية نوعية. فالعراق قادر على تحرير أرضه من المجموعات المسلحة ذات النزعة الإرهابية، ولكن ذلك لا يعني نهاية مشاكله التي أصبحت متشعبة ومتداخلة، إجرائية وبنيوية، سياسية وحياتية. وفي غياب القيادات التاريخية يحتاج العراق لمعجزة لكي يتماسك شعبه وتتحرر أرضه وتحمي حدوده. وسوريا هي الأخرى دخلت (أو أدخلت) باب الفوضى من أوسع الأبواب، ويتوقع أن تتواصل أزمتها طويلا حتى لو هزمت المجموعات المسلحة. ولبنان، هو الآخر، محكوم ليس بأوضاعه الداخلية فحسب، بل بظروفه الإقليمية أيضا، ولا يستطيع أن ينفصل عما يجري في سوريا وفلسطين وتركيا. ولا شك أن التوافق على رئيس مقبول من كافة الأطراف سوف يحقق قدرا من التوافق الداخلي، ولكن الواضح أن الجميع يبحث عن «هدنة» وليس عن «وقف دائم لإطلاق النار». واليمن ليس أفضل حظا، فوقف إطلاق النار بشكل هش لا يعني نهاية الحرب، بل ربما تكون الحقبة التالية أكثر دموية من سابقتها. فقوى التحالف الذي تقوده السعودية استثمرت كثيرا في الحرب على أمل تحقيق انجاز عسكري حاسم، ومن الصعب أن تقبل بنهاية للحرب لا تحقق تلك الأهداف أو بعضها. وفي الوقت نفسه فان تطورات الحرب لا توحي بإمكان حسمها عسكريا، فذلك المسار لا يؤدي إلا للمزيد من الدمار وارتكاب جرائم حرب ومزيد من تعبئة الرأي العام الغربي ضد حكوماته التي تساهم في تلك الحرب بشكل شبه مباشر. وهكذا يظهر أن كافة المؤشرات للتطورات الايجابية تخفي واقعا مرا يحتاج التعاطي معه لأمور عديدة: دبلوماسية ونوايا صادقة وحزم في إرادة الإصلاح واستعداد لتطوير أوضاع الشعوب بما يتناسب مع شعارات ثورات الربيع العربي. أنه أمر صعب، ولكن البديل عنه استمرار الاحتقان السياسي والأمني، والخشية المتواصلة من استمرار التطرف وتوسع الإرهاب والعنف، والمزيد من تمزق الأوطان. تلك هي شروط التمرد المجتمعي على الواقع السياسي وما يتضمنه من حتمية الانفراج، ولكن على حساب الأنظمة والاحتلال والنفوذ الغربي، وهذا ما لا تريده القوى التي تخطط دائما ضد مصالح العرب والمسلمين.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/10/24