مجاعة اليمن تتطلب وقف الحرب فورا
د. سعيد الشهابي ..
الشعوب العربية، كما هم سائر البشر، تكره الحرب وتنزع نحو السلام. فالنزاعات لا تحدثها الشعوب مهما اختلفت ثقافاتها أو مشاعرها. هذه الشعوب رفضت العدوان الثلاثي على مصر في مثل هذه الأيام قبل ستين عاما 1956، وخرجت في مظاهرات واسعة من شرق العالم العربي إلى غربه.
يومها كانت البحرين في ذروة انتفاضة شعبية عارمة بقيادة «هيئة الاتحاد الوطني» التي كانت تمثل قطاعات الشعب كافة، فتدخلت القوات البريطانية بشكل مباشر لقمعها واعتقال قادتها. ثم قامت بنفي بعضهم إلى جزيرة «سانت هيلانة» بالمحيط الأطلسي. وحين شن العدو الإسرائيلي حربه على الدول العربية في 1967 انتفضت الشعوب العربية وعمت عواصم المنطقة مظاهرات واسعة استمرت حتى ما بعد نهاية العدوان. ورفضت الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، وخرجت محتجة في الشوارع ضد حصار بيروت الذي استمر أكثر من ثلاثة شهور، حتى أجبرت القوات الفلسطينية وزعيمها المرحوم ياسر عرفات، على الخروج إلى تونس. وأعقب ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا التي قامت بها مجموعات مسيحية بدعم إسرائيلي مباشر. ورفضت هذه الشعوب الحرب في الكويت بعد الغزو العراقي في 1990، وخرجت الاحتجاجات والتظاهرات في الكثير من العواصم العربية رافضة ما كان يسمى آنذاك «التدخل الأجنبي» لإخراج القوات العراقية من الكويت. كانت هذه هي مشاعر العرب الجياشة ضد الحرب. كما كانت مشاعر الأخوة والتقارب والوحدة تدفع كافة الشعوب للتضامن مع بعضها حين تتعرض للحرب والعدوان.
ولكن حين قررت أمريكا وحلفاؤها الحرب على العراق لإسقاط نظام صدام حسين، خرجت الاحتجاجات، ليس في العواصم العربية، بل في العواصم الأخرى. ولم تخرج احتجاجات تذكر في العواصم العربية. كان ذلك مؤشرا لتغير في النفسية والثقافة، وهو تغير فرض بكافة الوسائل غير الشريفة. وحين اشتعلت الحروب في مرحلة ما بعد الربيع العربي، أصبح واضحا غياب روح التضامن، وتكلست المشاعر، فلم تظهر الاحتجاجات التي كانت تعبر عن وعي وإحساس وتضامن وإيمان. اليوم تندلع الحروب المدمرة في العالم العربي: العراق وسوريا وليبيا واليمن، في غياب الحضور الشعبي الذي تلاشى قبل ربع قرن تقريبا. ومن يدرس هذه الظاهرة سوف يكتشف أن ما تعرضت له الشعوب من هندسة فكرية وأخلاقية خلال تلك الحقبة كان له اثر مباشر على كسر المعنويات وإضعاف المشاعر وإطفاء شعلة العاطفة والإحساس. فبدلا من قيام وساطات عربية وإسلامية بين الفرقاء لإخماد الفتن، أصبحت النخبة طرفا في الصراعات الدائرة التي لا يمكن أن تحسم الخلافات التي أدت لها. هذه المرة لم يقتصر تأثير سياسات «قوى الثورة المضادة» على الرأي العام فحسب، بل ان النخب نفسها، إسلامية أو ليبرالية، ضحية لتلك الأساليب والسياسات، وأصبحت تحرض على العنف والحرب بتجيير المقولات الدينية لإضفاء الشرعية على النزاعات الدموية التي تتوسع كل يوم. والضحية هنا لا تنحصر هنا بأموال الأمة التي تهدر بالمليارات على صفقات السلاح وخدمات الدعم اللوجستي والعسكري، بل بدماء شبابها الذي تحول إلى حمامات دم تتوسع يوميا، ومن الضحايا أيضا الانتماء والعلاقات ووشائج الدين والثقافة، والتنمية المتواضعة التي حدثت بعد اكتشاف النفط.
وإذا كانت الحرب السورية وما أحدثته من دمار على كافة الأصعدة الإنسانية والمادية قد فرضت نفسها على العالم، نظرا للتركيز الإعلامي الغربي والعربي عليها، فأن حربا أخرى يشتعل أوارها في المنطقة منذ قرابة العشرين شهرا، ما تزال منسية من الكثيرين. فقوى الثورة المضادة لها مصالح واسعة في الوضع السوري التي أصبحت تدار بالوكالة. وما دام الشعب السوري هو الذي يدفع الثمن وما دامت هذه الحرب سبيلا لاستنزاف طاقات الأمة وحائلا دون توحدها وتوجيه طاقاتها للتنمية وبناء الشعوب ومكافحة الاحتلال والتخلف فلماذا تتوقف؟ أما حرب اليمن، فقد أذكيت نيرانها لمنع استقرار أوضاع المنطقة من جهة ولكي تبقى مصدرا لاستنزاف أموال الدول المشاركة فيها ثانيا، ومنع أي تقارب بين ابناء الأمة الواحدة ثالثا، وإشغال الرأي العام عن القضايا الجوهرية للأمة وفي مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين رابعا، وخلق استقطابات سياسية ودينية ومذهبية خامسا، وتلبية نزوات بعض الحكام الطامعين في التوسع وفرض النفوذ سادسا. وبغض النظر عن دوافع الحرب وظروفها ومآلاتها، فان الجانب الإنساني منها قد فضح عالم القرن الحادي والعشرين برمته. فهل من المعقول أن يعيش عربي مسلم في بلد محاط بأموال النفط الهائلة وقد تحول هيكلا عظميا بائسا؟ كيف يسمح البشر لأنفسهم بتجويع الآخرين وتحويلهم إلى أشباح قد تتحرك قليلا قبل أن تتحول إلى جثث هامدة؟ وكما يقال فان الصورة تحكي أكثر من الكتاب. فقبل أربعة عشر شهرا نشرت وسائل الإعلام صورة الجثة الهامدة للطفل الكردي – السوري «أيلان» ميتا على احد الشواطئ التركية، الأمر الذي هز ضمير العالم، وكان ذلك سببا لفتح بعض دول أوروبا أبوابها للاجئين. تلك الصورة اعتبرت شاهدا على التقصير الإنساني عن رفع معاناة الضحايا الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا. وكانت صورة الطفل السوري، عمران دقنيش، الذي اخرج من أنقاض منزله بمدينة حلب بعد أن دمرته الطائرات سببا لإثارة المشاعر وتحريك الضمائر والضغط على الفرقاء لإنهاء الأزمة السورية. ولا شك أن هناك المئات والآلاف من الأطفال السوريين والعراقيين والليبيين يتعرضون لهذا المآل يوميا. ومن المؤكد أن من أطفال اليمن ما بلغ مستوى أسوأ من ذلك. فلو غفلت قوى الثورة المضادة التي تدير هذه الصراعات وتغذي الأزمات والحروب، واستطاعت وسائل الإعلام الوصول إلى المناطق اليمنية التي تتعرض يوميا للقصف الجوي، لاكتشفت أطفالا في شكل أشباح. أطفال اليمن سوف يكونون أكثر تحديا للضمير البشري، لأنهم سيكونون هياكل عظمية بسبب الجوع الناجم عن الحصار المحكم على كافة منافذ بلادهم. والأكثر احتمالا أنهم لن يكونوا على قيد الحياة بعد أن فقدوا مستزماتها الجسدية. فقواهم الخائرة لا تقوى على تحمل المزيد من الصدمات التي يحدثها تدمير منازلهم بالطائرات والقنابل.
تعتبر منظمة الصحة العالمية أن مستوى الطوارئ المحدد للوضع الغذائي في العالم 15٪ بينما وصلت المعدلات في بعض محافظات اليمن كما في محافظتي تعز والحديدة إلى 25٪ و31٪ على التوالي. فقد أدت الحرب إلى توقف النشاط الاقتصادي في البلاد، إضافة إلى توقف كامل لعائدات النفط التي كانت تغطي نحو 70٪ من ميزانية الدولة؛ ما أدى إلى ضعف توليد الكهرباء وشح الوقود وإغلاق العديد من المصانع الكبيرة والصغيرة. أدى ذلك إلى خسارة مئات الآلاف من العمال لأعمالهم وخروج الشركات الأجنبية والمنظمات الدولية من اليمن وسحب أموالها أو تعليق أعمالها لأجل غير محدد. تقدر تقارير الأمم المتحدة أن عدد العاجزين عن تلبية احتياجاتهم الغذائية بــ 14.4 مليون نسمة بما في ذلك 7.6 مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وتشهد المدن اليمنية وضعًا إنسانيًا صعبًا وتدهورًا في الوضع الصحي وصعوبات تحول دون وصول المنظمات الدولية إلى مناطق النزاع المسلح، فالمجاعة تحاصر الأطفال، إذ إن هناك أطفالا مصابين بسوء التغذية الحاد ومعرضين لخطر الموت أكثر بعشر مرات من أقرانهم الأصحاء في حال عدم علاجهم في الوقت المناسب بسبب ضعف المناعة لديهم. تقول أرقام المنظمات العاملة في اليمن لمكافحة سوء التغذية أن هناك 3 ملايين شخص يحتاجون لمساعدات غذائية عاجلة منهم 2.1 مليون يعانون من سوء تغذية حاد في الوقت الحالي، وهذا يمثل زيادة بنسبة 65٪ في الأشخاص المحتاجين مقارنة بأواخر عام 2014 حسب تقرير للأمم المتحدة. ويؤكد المتحدث باسم منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة «يونيسيف» في صنعاء أن الوضع الغذائي للأطفال باليمن يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، فهناك نحو مليون ونصف من الأطفال تحت سن الخامسة يعانون من سوء التغذية وأكثر من ربعهم يعانون من سوء تغذية حاد وهو الهزال الشديد الذي يؤدي للوفاة في حال عدم علاجه.
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/10/31