آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
شفيق الغبرا
عن الكاتب :
أكاديمي وحلل سياسي كويتي

العرب وصعوبات زمن آتٍ

 

شفيق الغبرا ..

الاعتقاد بأن الدول العربية المستقرة وشبه المستقرة قابلة للوقوع في ما وقعت فيه سورية والعراق وليبيا واليمن، فيه كثير من المبالغة ويثير مزيداً من المخاوف بين النخب والشعوب، مما يمهد لمزيد من الأخطاء في التعامل مع المرحلة المقبلة. لكن في الوقت نفسه، فإن الاطمئنان إلى أن بقية الدول العربية مستقرة وغير قابلة للارتجاج، وخصوصاً تلك التي لديها أعداد سكانية كثيفة نسبياً، واقتصاد قائم على الاحتكار وقمع للحريات في ظل فساد بلا مساءلة فيه كثير من عدم الواقعية.

 

كل شيء ممكن في واقع العرب في هذا الممر التاريخي الصعب والمتحول. الواضح عند التدقيق أن الدول العربية في حاجة إلى نظام سياسي أكثر تطوراً يحترم الإنسان أولاً وأخيراً، وهذا ليس متوافراً اليوم إلا في جيوب قليلة. فمكانة الإنسان في العالم العربي لا تقاس من خلال طريقة التعامل مع المؤيدين والأنصار، بل من خلال أسلوب التعامل الفظ والعليائي مع قساوة الناقدين وحدة المختلفين. لا قيمة للحقوق إن لم تتصالح مع النقد والمعارضة.

 

يمثل بناء حياة سياسية حرة وقادرة على تأمين التنمية ومواجهة الفساد في ظل عدالة تلتزم التداول على السلطة، التحدي الأكبر أمام العرب، فهناك عجز لدى معظم النخب العربية عن التعامل مع الفساد؛ وذلك لأنها الأكثر انغماساً من أي نخبة في التاريخ العربي الحديث بامتيازاتها وثرواتها ومقتنياتها، وهي في حال صراع كبير في الوقت نفسه مع منافسيها من ضمن النخبة ذاتها على المقتنيات والثروات والقدرة على التمتع بكل ما تقدمه لها امتيازاتها في الدولة والنظام السياسي من ثروات ونفوذ. وفي هذا يغيب عنها بدرجات كبيرة المشروع الوطني الأوسع. هذه الحال بين غالبية النخب العربية فيها من علامات ما كان قد سبق ووقع مع نخب أوروبية كثيرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

 

يذكر أن هذه التركيبة للنخب العربية متناقضة بحدة مع مكانة المؤسسين التاريخيين لها، ففي النخب القديمة درجة عالية من العصامية الفذة والالتزام بالمصلحة العامة والحس الفطري بما هو صائب وما هو خطأ، بينما لدى بعض النخب الجديدة ضعف في المقدرة على التعامل مع شعوب ومجتمعات ونقد وأحزاب ورأي عام يتطلب منها التخلي عن الكثير من امتيازاتها. النخب الراهنة والصاعدة لم يتم إعدادها لهذا العصر، إلا في حالات قليلة، فهي ليست مدربة على التعامل مع شعوب متغيرة ومطالب عاتية كما هو حاصل الآن، بينما النظام العربي، من جانبه، عاجز بجدارة عن إنتاج نخب مؤثرة يفرزها المجتمع من خارج الدائرة الضيقة التي اعتاد على التعامل معها.

 

لهذا إن كان في الإمكان التنبؤ بالمرحلة المتوسطة والبعيدة نسبياً، سيتضاعف مأزق الخلافة من حاكم لآخر، وستزداد مشاكل التوريث حدة بين كل جناح والجناح الآخر، وسيتداخل هذا مع صراع النخب في ما بينها، مما سينتج قرارات أكثر تسرعاً وسياسات يناقض كل منها الآخر. وهذا بدوره سيرفع معدلات الاحتقان في المجتمعات؛ بسبب غياب أبجديات الحقوق الأساسية والدستورية. وسيقع هذا كله في ظل مأزق الاقتصاد القائم على الاحتكار والنفط والمؤدي بطبيعة الحال إلى الفساد السياسي واللاعدالة.

 

سيكون الاقتصاد في الزمن المقبل المحرك الذي يصنع الأزمات. فإحراق محمد بوعزيزي لنفسه في تونس ارتبط بشأن اقتصادي وتداخل مع الحرية والاحتكار والحقوق وسلوك الأمن. في وضع محتقن كالذي نمر به أو كالذي سنمر به في السنوات المقبلة سيكون التفاعل مع حوادث تشبه حادثة بوعزيزي (كما حصل في المغرب قبل أيام) بأسرع من البرق. لكن هذا كله يعود ويؤسس لمكانة الرأي العام الذي تحركه وسائل جديدة كسرت احتكار الإعلام الموجه.

 

لاتزال الدول العربية المستقرة وشبه المستقرة تمتلك نسباً (وإن متفاوتة) من الشرعية السياسية والتاريخ السياسي الموحد والمشروعية. فلايزال للتاريخ منطقه ولاتزال للنفط قيمة في الإقليم والعالم. وهذا يجعل منطقة النفط مجال اهتمام أكبر من قبل الدول الكبرى. لكن النجاح في السابق، وهنا بيت القصيد، يختلف عن النجاح في الظروف الراهنة، فنحن في مرحلة تاريخية أشد وطأة وصعوبة، والدول الكبرى لن تحرص على استقرارنا إن لم نحرص عليه وفق معادلات صائبة وإنسانية وعادلة، فإن انقسمنا وتقاتلنا بسبب حب السلطة ستتركنا ننقسم، وإن حملت فئة سلاحاً ضد أخرى ستتركنا نُستنزف بينما تؤمن مصالحها. الأحداث سريعة وضعف المواكبة من قبل النظام العربي وصفة لمفاجآت آتية.

 

منذ العام 2011، تفاعل فشل الثورة المضادة (التي كانت أمل الراغبين باستعادة ما كان قائماً قبل العام 2011)، مع تفتيت وضرب القوى الديمقراطية والناشطين العرب السلميين. فأمام القساوة في التعامل مع تعبيرات الربيع العربي السلمية كان من الطبيعي أن تتراجع قوة الناشطين. لكن ما وقع منذ الربيع العربي أبرز مدارس أكثر فتكاً وتطرفاً تسعى إلى تفكيك النظام العربي وتدميره («داعش» والقوى الجهادية)، وهذا نتاج طبيعي لغلق الأفق الديمقراطي في الإقليم. وبالوقت نفسه، وأمام السعي إلى الانتصار على التطرف من خلال مواجهات عسكرية وحشد دولي بينما تستمر المشاكل التي فجرت التطرف، فمن الطبيعي أن تعود قوة الناشطين وأطروحة الأفق الديمقراطي والعدالة.

 

الناشطون الجدد سيكونون أكثر حسماً وجذرية وثورية وربما ذكاء وتنظيماً من سابقيهم من الناشطين المثاليين. وسيسجل التاريخ أن هزيمة القوى الديمقراطية السلمية ذات الأهداف الإصلاحية المحدودة في الساحة العربية بعد العام 2011 فتح الباب لبروز قوى متطرفة على غرار «داعش» وأخواته. لكن هزيمة «داعش» هي الأخرى ستفتح الباب لقوى ديمقراطية من خلفيات مختلفة، وستتميز هذه القوى بأنها أقل مرونة وأكثر سعياً إلى تغيير يؤثر في جوهر النظام العربي الراهن. لن تقبل القوى المقبلة بالحلول الوسط لتغييرات تصيب أساس قاعدة التداول على السلطة. هدف هذه القوى الصاعدة التحول الديمقراطي في الإقليم. لكن هذه العملية التاريخية لن تتم في مدد قصيرة وسيتخللها كثير من الأعمال الشعبية والجماهيرية، لكنها لن تخلو من العنف.

 

في كل النزاعات القائمة منذ العام 2011، تضافرت الظروف لتخلق وضعاً أشد صعوبة للنظام العربي. انهارت أسعار النفط، وفُتحت حروب عدة بشأن الدول المستقرة، ما ورطها في نزاعات تستنزفها. يكفي أن نعرض كلفة الحروب في ليبيا والعراق وسورية أو أن نستذكر تكاليف شراء السلاح من قبل الدول المستقرة لتحقيق حد من الأمن. النظام العربي بكل أبعاده يعاني من استنزاف لم يعرف مثيلاً له في السابق.

 

تبدو المرحلة المقبلة مثل نادٍ مغلق. من ينجح في الإصلاح والتعامل مع شروطه الصعبة سيكون عضواً فيه. ومن يبق ملتزماً بجمود النظام القديم وتعاليه وضعف لغته الحوارية وقدراته على القيادة سيفوته القطار وسيدفع ثمناً كبيراً لذلك تفككاً ونزاعاً، بل وحروباً أهلية وانهيارات. سيكون العقد المقبل مفصلياً للعرب كما كان عقد هذا العقد، لكن بنكهة مختلفة أكثر زخماً وثورية وحسماً. القمع ليس حلاً، والسكون ليس طريقاً، وتفادي الإصلاح ليس مستقبلاً.

 

صحيفة الوسط البحرينية

أضيف بتاريخ :2016/11/06

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد