فوز ترامب وهزيمة النخبة الحاكمة
قاسم حسين ..
لم يكن فوز دونالد ترامب في الانتخابات انتصاراً على منافسته هيلاري كلنتون فحسب، بل على النخبة السياسية التي تسيطر على الإدارة والإعلام في واشنطن.
لقد اصطفت النخبة الديمقراطية مع كلنتون، واصطفت النخبة الجمهورية ضد ترامب، ومع ذلك استطاع أن يكسح منافسيه العشرة في الانتخابات التمهيدية قبل 4 أشهر، ويصل منافساً وحيداً لهيلاري التي وقف معها الكثير من الفنانين والمغنين ورموز السينما. وقد أظهر هذا الانتصار أن الإعلام الذي اصطف إلى جانب كلنتون ومهاجماً ترامب، أن أغلبية الشارع الأميركي تقف مع خصمها اللدود. بل إنه ألقى بظلالٍ من الشكوك على دقة الاستطلاعات وصدقية آلياتها، حيث ظلّت في الأسابيع الأخيرة تبشّر العالم بفوز مؤكد لهيلاري، فجاءت النتائج المخالفة صدمةً لمن صدّقوها.
لست مؤيداً لأيٍّ من هذين المرشحين، السيئ أو الأسوأ، لقناعتي بأنهما معاديان لقضايانا وشعوبنا، ولكن لابد أن ندرك أن الشعب الأميركي لن ينتخب شخصاً للدفاع عن مصالحنا. فما درج على كتابته إعلامنا من أن هذا الرئيس أو ذاك أفضل لنا، إنّما هو نوع من أنواع المخدرات والتضليل. فالأميركيون عندما انتخبوا باراك أوباما قبل 8 أعوام، إنّما انتخبوه ليخرج بلادهم من مستنقع حربي أفغانستان والعراق اللتين استنزفتا موازنتهم، وليس لنشر الديمقراطية في العالم الإسلامي، كما قال فصفّق له النواب في تركيا ومصر. لقد انتخبوا محامياً أمس للدفاع عن مصالحهم، وانتخبوا اليوم رجل أعمال للدفاع عن مصالح «الشركة» نفسها.
لقد قيل الكثير عن انحدار هذه الانتخابات إلى مستوى من المهاترات والمكايد والتشويه والتشهير والتخوين، لكنها كانت من أساسيات اللعبة. فبهذه الوسائل تقدّمت كلنتون في الاستطلاعات، وبنفس الوسائل القذرة أطاح بها ترامب.
نحن هنا على بعد آلاف الكيلومترات، بعضنا أيّد ودافع عن كلنتون، وبعضنا دعمها مادياً ومعنوياً، وتعاطفاً قلبياً، وخصوصاً أن الطرف الآخر لم يوفّر فرصة في تقديم نفسه معادياً شرساً للمسلمين والآسيويين واللاتينيين، وهدّد بطرد العرب اللاجئين! وكأننا نسينا ما فعله الديمقراطيون خلال ولاية أوباما ببلداننا. فهم انسحبوا بأقل الخسائر من حرب واحدة بالعراق، وورّطوا 5 أو 6 من بلداننا وشعوبنا في حروب وفتن وانهيارات، ووّسعوا دوائر القتل والدمار والخراب.
إننا ننسى أن رؤساء أميركا لا يأتون بانقلابات، ولا يديرون سياساتهم تبعاً للعداوات الشخصية أو المزاج، وإنما يحكمون تحت رقابة من الكونغرس والصحافة وبقية المؤسسات، ويصلون للحكم بحسب المزاج الشعبي السائد في فترة من الزمن. كما إنهم لا يأتون من فراغ، وإنما تصنعهم المؤسسات والإعلام وقوى رأس المال. وما يُكتب عن ترامب بأنه شخصٌ غبي ليس له معرفة بالسياسة، يدحضه الواقع، فهو رجلٌ من صنع المؤسسة السياسية والمجتمع الأميركي. فالرجل يعمل في حقل السياسة منذ الثمانينات، وقد بدأ العام 1987 جمهورياً ثم انقلب ديمقراطياً، ثم أصبح حراً ثم صار مستقلاً، وأخيراً عاد للحزب الجمهوري ليستقل قطاره للوصول إلى البيت الأبيض.
الرجل مهما بدا متهوراً ومتطرفاً، بذيئاً أو عنيفاً، فإنه ابن ذلك المجتمع الذي انتخب من قبله جورج بوش الابن مرتين، مع صعود موجة اليمين المسيحي المتطرف الذي وعد الأميركيين بأن يكون القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً بامتياز. واليوم يعدهم ترامب بأن تكون أميركا أقوى.
لم أفاجأ إطلاقاً بانتخاب ترامب، وإنما كنت أتوقعه منذ أسابيع، ففوزه لم يحدث أمس، وإنّما بدأت إرهاصاته قبل عامين، في العنف الزائد ضد السود وقتلهم المتعمد أمام عدسات الكاميرات على يد الشرطة نهاراً، حيث كان المجتمع الأميركي الأبيض يعود إلى ذاته فيلومها على انتخاب رجل أسمر للرئاسة. فجذور العنصرية التي عشعشت لأربعة قرون، ليس من السهل محوها من الأنفس والمجتمعات خلال عام أو عقد، وما حدث هو العكس: كلما شاهدوا أوباما يستقل الطائرة الرئاسية، أو يجلس للمكتب البيضاوي، أو يحتضن هيلاري البيضاء، كلما تولّد رد فعل معاكس لوجوده. إنه نتاج مخاض للمجتمع الأميركي في ظرف تاريخي معين، كما كان وصول أوباما نتاج مخاض تاريخي آخر قبل 8 أعوام.
هذه هي حقائق الحياة ورواسب التاريخ، وهو ما لا يستطيع الإعلام محوه، أو تزوّره الاستبيانات.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/11/10