درس انتخابي أميركي: الديموقراطية والتجهيل السياسي
فؤاد ابراهيم ..
على غير العادة، أثارت نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية سؤالاً فاصلاً حول عواقب الديموقراطية استناداً إلى مبدأ الأغلبية والأقلية. وحقيقة السؤال هو: ماذا لو اختارت الأغلبية «الجاهلة» مرشّحاً يؤول إلى تقويض مصالح الأقلية «العالمة»، وما تعتقده الأخيرة تهديماً للديموقراطية وتهديداً للدولة؟
من نافلة القول، إن أكثر الأطراف ابتهاجاً لسؤال من هذا القبيل هي الأنظمة الشمولية في العالم، على وقع أول وأخطر مناظرة سياسية وشعبية في العالم الديموقراطي. نتذكر في هذا الصدّد ما ورد في نظام «هيئة البيعة» بالمملكة السعودية والصادر في تشرين الأول سنة 2006، إذ تختار ـ الهيئة ـ في حال عدم أهلية الملك لأسباب صحية «الأصلح للحكم من أبناء الملك المؤسس». وبحسب برقية نشرت في موقع «ويكيليكس» في نيسان 2007، فإن الأمير سلمان، الملك الحالي، عارض الديموقراطية «لأن القبائل والمناطق ستعمل على تكوين أحزاب خاصة بها».
من المؤكّد أن الدوائر الأكاديمية، لا سيما المتخصّصين في العلوم السياسية، إلى جانب كتّاب المقالات، وفي رد فعل على صدمة النتائج في الانتخابات الرئاسية الأميركية، قد شرعوا في نقاش جاد لناحية تحديد معايير جديدة للانتخاب، في سياق مراجعة مبدأ الأغلبية كمعيار حاسم في النتائج.
يمكن القول إن ردود الفعل على نتائج الانتخابات، والاشتباك الإيديولوجي والسياسي المرافق لها عن نزعتين «شعبوية» تتمثّل في الأغلبية المخفّضة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً، يجسّدها العمّال وأصحاب الياقات الزرقاء، والقادمون من الأرياف والهوامش الاجتماعية والمدينية، مقابل «النخبوية» الممثلة في أقليّة من أرباب المال، والإعلام، وسدنة الإمبريالية بأشكالها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
إن السؤال الجدلي الذي يتمحور حوله النقاش السياسي اليوم هو: هل يحق لأغلبية جاهلة أن ترسم مسار الأمة وتحدّد مصير الدولة؟ وعليه هل يجوز لمثل هذه الأغلبية ممارسة الفعل الديموقراطي؟
وهنا، ولسخرية القدر، يلتقي المجالان الديموقراطي والاستبدادي اليوم عند نقطة نقاش حاسمة: هل المجتمع مؤهّل لممارسة الديموقراطية وفق أصولها المرسومة؟ في الخليج جدال بيزنطي عقيم يشرّع السياسات الشمولية تأسيساً على رؤية بائسة: أن شعوبنا ليست جاهزة للممارسة الديموقراطية؟ تماماً كما أن المرأة في السعودية ليست جاهزة لقيادة السيارة. ما يثير السخرية أن هذه الرؤية متوارثة، يتناقلها ملك عن ملك وأمير عن أمير، وكأن مجتمعات الخليج تعيش في «غيتوات» محكمة الإغلاق، وخارج قوانين التحوّل الاجتماعي عبر الزمن.
في تحليل مجتمع الناخبين الأميركيين نحن أمام حقائق:
ـ أن غالبية الأصوات الشعبية كانت من مصلحة هيلاري كلينتون لا منافسها دونالد ترامب، وأن الفارق يعود إلى الأصوات الانتخابية.
ـ أن الناخبين، مع فارق ضئيل، هم أنفسهم الذين اختاروا باراك أوباما لدورتين، وهم الآن اختاروا ترامب لأسباب مختلفة.
ـ أن الإعلام ومراكز الاستطلاع، بل والنخبة بالمعنى الواسع، كانت إلى جانب هيلاري كلينتون، بما يلغي ذريعة التضليل ودور «المتلاعبين بالعقول»، بحسب أطروحة هربرت شيللر.
لماذا قبلت الأقليّة، في الدورات السابقة، بالنتائج التي أوصلت مرشحها إلى البيت الأبيض، بفضل الأغلبية الناخبة المنسجمة مع ميول الأقلية ومصالحها، بينما ترفضها الآن حين تمرّدت الأغلبية على مصالح الأقلية وميولها، وعليه تعطيل وظيفة أدوات إقناعها.
في النتائج الأولية والفوريّة، أثبتت الأٌقليّة في تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة أنها مع الديموقراطية التي تأتي بمرشحها وتكفل مصالحها، وفي غير هذه الحال، فإن الديموقراطية تصبح خطراً ووبالاً.
تحاول إيليا سومين مؤلفة كتاب (Democracy and Political Ignorance: Why Smaller Government is Smarter) الإجابة عن أسئلة جوهرية حول الانتخابات الديموقراطية ونتائج التصويت. وترى أن الديموقراطيات تقوم على قدرة العامّة على إخضاع مسؤوليهم المنتخبين للمساءلة. ولكن ماذا لو أن شريحة واسعة من الناخبين تعلم القليل عن المناظرات السياسية الجارية اليوم أو حتى الأعمال الأساسية للحكومة الأميركية.
في الواقع، إن الجهل السياسي لدى جمهور الناخبين ليس عائداً لهم وحدهم، من دون إعفائهم من المسؤولية، ولكنّ ثمة دورا محوريا تلعبه النخبة السياسية الأميركية، أي الأقلية التي تمسك بمفاصل القوة والتأثير والنفوذ، في تجهيل الجمهور سياسياً. ليس مستغرباً أن نحو 34 في المئة فقط من الأميركيين يدرك السلطات الثلات في الحكومة الفدرالية: التنفيذية والتشريعية والقضائية. إن عملية التجهيل السياسي كان قراراً نخبوياً أكثر منه نفوراً مجتمعياً من السياسة والثقافة السياسية. ولو أدرك الناخبون في مرحلة مبكّرة العلاقة الوثيقة بين الدخل والصحة والتعليم من جهة، بالمعرفة السياسية المطلوبة لفهم العلاقة تلك، لما جهل ماذا تعني الحكومة وأذرعها وكيف يؤثر الصوت الانتخابي على مصير الناخب.
لماذا يطرح الآن الجهل السياسي لدى الأغلبية؟ لماذا يثار السؤال النخبوي: إذا كانت معرفة الأغلبية بشغل الحكومة منخفضة فستتخذ قراراً خاطئاً؟ أليست هي الأغلبية ذاتها التي اختارت أوباما وقبله بوش ومن كان قبلهما؟ فهل كان منسوب المعرفة السياسية لدى الأغلبية مرتفعاً في العهود السابقة؟
في حقيقة الأمر، أن الأقلية التي كانت تقود «الإستابلشمنت» صمّمت نموذجاً للديموقراطية يفضي حكماً إلى غلبة خيارها. ولذلك، كانت الصدمة عارمة حين وجد «علية القوم» أو «النخبة» في التراتبية المجتمعية الأميركية بأن رياح الديموقراطية جاءت على غير ما تشتهي سفنهم، بل إن القناعة النمطية القائلة بأن منسوب الذكاء لدى العقل الجمعي يكون متدنياً دائماً، وبالتالي أمكن السيطرة عليه عبر إخضاعه تحت تأثير موجات من التعبئة والتوجيه ليفكر ويقرر بحسب هوى «النخبة»، تصدّعت في ضوء تجربة الأخيرة.
لأول مرة تنجح «الأغلبية الجاهلة» في خداع سيدها، إذ فاق على صدمة هزّت أركان «المؤسسة»، وباتت تتصرّف بانفعالية في رد فعل على خسارتها، والأخطر تحطّم مصداقيتها. كل توقعات «النخبة» السياسية والرأسمالية والإعلامية وحتى الأكاديمية سقطت، لأنها لم تكن مبنيّة على دراسة واقعية لتحوّلات المجتمع الأميركي على مدى سنوات. تمسّكت «النخبة» بعناد مثير للشفقة بمزاعمها المدسوسة بالتفوّق وتالياً احتكار حق التسّلط، فيما تتهيأ الأغلبية المنتصرة لاستعادة زمام المبادرة في إدارة شؤونها عبر رئيس اختار همومها رافعة سياسية له، فوصل إلى البيت الأبيض من خارج المؤسسة السياسية، ومتجاوزاً التجاذب الحزبي التقليدي.
الانقسام العظيم في المجتمع الأميركي، كما لفتت بتفجّع المرشحة الخاسرة هيلاري كلينتون في خطاب الهزيمة في التاسع من تشرين الثاني الجاري، مرشح لتظهير أشكاله المفزعة في المرحلة المقبلة، ليس فقط بسبب انكشاف التناقض شبه التام بين الأغلبية المحكومة (subordinate) والأقلية المهيمنة (dominant) التي تحصل على حظ وافر من الثروة وسبل الوصول إليها، وتحتكر مصادر السلطة وسبل النفاذ إليها، ولكن لأن انكشافاً لبنى مجتمعية وبيروقراطية وثقافية واقتصادية تشكّلت عبر أمد طويل وحان الوقت لإخضاعها للفحص، وفي نهاية المطاف إعادة تشكيل نموذج للديموقراطية يكفل تحقيق أهداف الأغلبية بأمانة وواقعية، ولا يجعل للأقلية سبيلاً على تجهيل الأغلبية سياسياً، ولا تضليلها انتخابياً.
إن ظاهرة الشعبوية التي تجتاح أجزاء واسعة من القارة الأوروبية وداهمت الولايات المتحدة مؤخراً سوف تصل إلى أقصى درجات تأهبها في وقت قياسي، ليس بسبب فشل الديموقراطية كآلية لاصطفاء الأكثر تمثيلاً لمصالح الأغلبية، ولكن بفعل الاستغلال الماكر لها لإيصال الأكثر تمثيلاً لمصالح الأقلية.
إن المجادلة القائلة بأن الديموقراطية لا تأتي بالقادة الأكفأ أو الأفضل، وعليه فإنها لا تصلح كآلية لممارسة الحكم، تحاكم النظرية لا طريقة تطبيقها. فالديموقراطية لم تكن مصمّمة، في الأصل، لضمان إيصال الأكفأ والأفضل، وإنما في حال تطبيقها بصورة صحيحة تضمن وصول الأكثر تمثيلاً. وعليه، فإن هوية الفائز تحدّده أصوات الناخبين الذين مارسوا حقّهم بصورة ديموقراطية.
وعلى الضد، فإن الجدل السياسي في المجال العربي والذي يصدر عن نتيجة متوهّمة مفاده: فشل الديموقراطية في إيصال الأكفأ، ولكن أنصار هذه الفكرة يغفلون ببلاهة حقيقة أن عيوب الديموقراطية تفوق بأضعاف فضائل الاستبداد، لأن الديموقراطية تهب من يمارسها حق الانقلاب عليها، فيما الاستبداد يوصل الثائرين عليه إلى المشنقة أو المؤبّد، كما هو حال سجون مشيخات النفط.
صحيفة السفير اللبنانية
أضيف بتاريخ :2016/11/19