زيارة الأربعين... سياسياً
قاسم حسين ..
اختتمت «زيارة الأربعين» يوم الاثنين، العشرين من صفر، 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، بمشاركة زوار من أكثر من خمسين جنسية.
لن نتوقف عند الإحصاءات التي تُنشر سنوياً عن أعداد الزائرين، فليست القضية قضية منافسةٍ وتباهٍ، وليست العبرة في ضخامة الأرقام، والأمر سيان في ميزان القيم إن كان ثلاثة أو سبعة أو عشرين مليوناً. القضية هو ما تنتجه هذه الزيارة من مفاعيل في ميدانين مهمين: السياسة والمجتمع.
هذه الزيارة يقوم بها ملايين البشر، من خمسين دولة، عربية وأجنبية، ويشاهد العالم على الفضائيات سنوياً، أكبر قافلة مشاة تنطلق مطلع شهر صفر، يتقاطرون على كربلاء، رجالاً ونساءً، شيباً وأطفالاً، تجمعهم حالةٌ إيمانيةٌ خاصة، ونوع من العشق الخالص لأحد أبطال التاريخ الإسلامي، الذي استشهد قبل 1377 عاماً، ولكنه مازال حياً في وجدانهم وضمائرهم. أمام هذه الظاهرة الإيمانية كان يُفترض أن تنحني الجباه احتراماً، لا أن تتورّط بعض الجهات الإعلامية المريضة في دسائس وتخرّصات طائفية رخيصة.
زيارة «الأربعين» تاريخياً بدأت على يد الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري (رض)، وكان قد كفّ بصره، فقاده غلامه إلى كربلاء حيث اغتسل بماء الفرات، وتطيّب للقاء سبط الرسول (ص)، وحين دنا من القبر ناداه: «حبيبٌ لا يجيب حبيبه». واقتداءً بهذا الصحابي العظيم سار المؤمنون والعاشقون عبر القرون. وكانت بعض الحكومات تحاول منعهم بفرض ضرائب مالية، ولما لم تُجدِ فرضت عليهم عقوبات بربرية، مثل قطع الأيدي، فكانوا يضحون بأيديهم من أجل الوصول للقبر الشريف. والمؤكّد أن مثل هذه الحملات المريضة ستؤدي حتماً إلى زيادة أعداد الزائرين.
لم تتوقف قوافل الزوار في زمن الحرب أو السلم، وفي 1977، حاول نظام البعث وهو في ذروة سطوته، أن يمنعهم بالقوة، فقابلته الجماهير بالتحدي، فأطلق النار عليهم، وكانت تلك أحد الأسباب التي عمّقت حالة القطيعة والكراهية للنظام، حيث برزت صورته كمعادٍ شرسٍ للإسلام.
بعد سقوط النظام الدكتاتوري، عادت الزيارة للظهور بمستوى أوسع، لتمثل ظاهرة كبرى، يتناولها الإعلام الأجنبي في تغطياته، وأتيحت لها عشرات الفضائيات الجديدة الخاصة، بينما لم تكن تحظى بتغطية أية إذاعةٍ أو محطةٍ أرضيةٍ في العقود الماضية.
اليوم، يتابع العالم هذه الظاهرة باهتمام، حيث يجد نفسه أمام ظاهرة لا توجد في أية بقعة أخرى من العالم، من قبيل ما يقوم به الشعب العراقي، من ضيافة لملايين الزائرين الأجانب، رغم ما يعانيه من ضائقة في العيش، ونسبة كبيرة من الفقر. والكثيرون يبجّلون هذا الشعب العربي الأصيل، ويشهدون اليوم أنه من أكرم شعوب العالم.
لا تتوقف الأمور على هذه الضيافة العالمية النادرة، التي لن تجد لها منافساً في موسوعة «جينيس»، من أيّ بلد أو شعب آخر، بل تتعداها إلى مفاعيلها الأخلاقية، فهي من شأنها أن تزيد التلاحم بين طبقات الشعب، الذي خطّط الجناة الدوليون لتمزيقه وتوزيع أرضه مزقاً بين رجال «المافيات» السياسية. وقد شاهدنا مقابلات وصوراً وفيديوهات لمسيحيين وأيزيديين وصابئة مندائيين، يشاركون في المشي أو مراسم العزاء أو خدمة الزائرين. كان كلامهم بلسماً يطمئن محبي العراق على مستقبل هذا البلد الكبير.
من التداعيات السياسية لمثل هذه الزيارة التي تنتج مزيداً من التلاحم بين العراقيين ورص صفوفهم، أنها تعطي زخماً إضافياً للمقاتلين على جبهة محاربة الإرهاب، الذي لم يتوقف عن سفك دماء العراقيين منذ 13 عاماً، في شوارعهم وأسواقهم ومساجدهم. عشرات الآلاف من الأبرياء العراقيين ذهبوا ضحية هذا الحقد الأعمى، وأضعاف ذلك من المصابين والأيتام والأرامل، وإشاعة البؤس والشقاء، وتهديم البنية التحتية، فضلاً عن النزاعات بين الساسة الحزبيين الفاسدين التي لم تنتج إلا مزيداً من الخراب. ومن شأن هذه الزيارة أن تسهم في انبعاث هذا الشعب الجريح من تحت الرماد.
زوّار كربلاء ليسوا ملائكة أو قديسين، بل مسلمون محبون، عشّاق حريةٍ وكرامةٍ ومُثُل، ولا نزكّي على الله أحداً، ففيهم المقصّر والمخطئ، كأي زوّار لمكة المكرمة، أو القدس أو الأزهر الشريف، أو جامع القيروان. لكن من العار أن يتهم شعب عربي شريف في مروءته، دون وازع من شرف أو عروبة أو دين.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/11/24