عن بقايا «البعث» في بقايا العراق
عبد الله زغيب ..
لم يقترب «تنظيم الدولة» من نهايته كما يفعل في مثل هذه الأيام. فهو في نسخته العراقيّة «الأصليّة» يتجه تدريجاً نحو ذوبان قسري، بفعل فارق القوة الهائل بينه وبين ائتلاف الخصوم القادم من الاتجاهات كافة، وبفعل الاهتزاز غير المسبوق الذي تعرّض له على مستوى بيئته الأساسيّة الحاضنة، خاصة في وسط وغرب العراق. بالتوازي مع ذلك تنطلق عملية منفتحة على الكثير من الأخطار الكامنة، تقوم على تتبع القيادات العسكريّة والفكريّة للتنظيم، في سياق الحاجة الملحّة إلى دراسة الأسباب الممهدة دوماً لصعود هكذا تنظيمات، في منطقة ذات خاصية اجتماعيّة وثقافيّة موحدة. علماً أن تتبّع هذه الأسباب لا يمكن منطقياً أن يُغفل سردية منطقية تبدأ لحظة احتلال العراق العام 2003، وإسقاط دولته ببعدها «العميق» قبل «الوظيفي»، والتمهيد لتطورات شكلت مفاصل أساسيّة في تكوين عراق ما بعد الغزو، وفي مقدمها قانون «اجتثاث البعث»، ثم «قانون المساءلة والعدالة» في وقت لاحق.
من الممكن والمتاح لأقطاب «التحالف» على الإرهاب، من دوليين وإقليميين، الركون إلى حالة «نشوة» سياسية وديبلوماسيّة وربما عسكريّة، في مرحلة ما بعد «تحرير» كامل نينوى وجوارها من عناصر التنظيم. فهذا من بديهيات نجاح اشتباك واكبته أدبيات «رومنسيّة»، تركزت في الشهور الأخيرة على ضرورة إنهاء ظاهرة الذبح «المؤدلج» والموثق والمنشور بشكل غير مسبوق. كل هذا بمعزل عن جردات حساب طويلة تتعلق بطبيعة انخراطات هذه الدول، وحدود الاستثمار «السلبي» الذي اتبعه بعضها في إدارة الصراعات، تحديداً في إدارة الحرب الأهليّة العراقيّة وتشبيكها مع الحرب السورية، ضمن جهود سعت وقتها لخلق نواة جيوسياسيّة «وسطى» تشكل في مرحلة أخرى مقدمة لضرب دمشق وبغداد، بقوة تشبه الصعود الأول لتنظيم «الدولة الإسلاميّة» واقترابه من العاصمة العراقية قبل سنوات. لكن التطور السريع في الطرف المحلي المقابل، وتمكن العراقيين بالتعاون مع حلفائهم من إنتاج «حراك» عسكري بديناميات محليّة، أجبر الجميع على السير بالخطة «باء»، ومحاولة إيجاد أرضيّة مثمرة للجميع.
البداية من «اجتثاث البعث»
لكن الاحتفال المتوقع للرئيس دونالد ترامب بـ «منجزات» فريق أوباما في الحرب على «الإرهاب»، لن يكون على الإطلاق صورة وافية وكافية في تشكيل عراق ما بعد البغدادي. بل إن للأمر بما فيه من التباسات شبه واضحة للجميع، مقدمة تمهيديّة لصناعة سرديّة «آلام» مقبلة على العراق، وعلى الرقعة الجغرافيّة ذاتها منه تحديداً. وبما أن للعراقيين أكثر من دليل على الطبيعة «التجددية» للتنظيمات السلفيّة «الجهاديّة»، فلم يعد من المتاح اليوم الركون إلى الأدبيات شديدة «التخشّب» ذاتها، التي واظبت نخبة ما بعد 2003 على تردادها، وبالنغمة أو الحدة ذاتها التي رافقت خطاب الفريق المحافظ المرافق لإدارة جورج بوش الإبن في ذلك الوقت، تحديداً لجهة تتناول العناصر التاريخية والاجتماعية الإشكاليّة التي أنتجت المأساة العراقيّة المستمرة، ومنعت العراقيين من إيجاد عقد اجتماعي، وبشكل مواز، «جمهورية» عراقيّة جديدة يمكن لها الاستمرار، في ظل حالة الاستقطاب الطائفي الحاد في المنطقة، المرتكز إلى صراعات المنخرطين الكبار، وإن بأدوات وأدبيات «ثقافيّة محليّة».
لم يعد مجدياً القول إن العراق يحارب «حالة صدّاميّة» أو امتداداً دولياً للاتجاهات السلفيّة المتطرفة. فالاتهام السياسي «التاريخي»، أو الحديث التوصيفي، مهما كان حقيقياً، لا يسهم إلا في حجب العامل الأبرز والدافع الأكبر لخروج المحافظات الوسطى والغربية عن إرادة الدولة المركزية وعند كل منعطف. فالمسألة تعكس دوماً انقساماً عمودياً غير مسبوق، ضرب أسس الاتصال والتواصل المجتمعي، وأنتج انسلاخاً في الاتجاه والمشروع، ومهّد لانسلاخ آخر على مستوى الهوية، ساهم في صعود الاتجاهات الانفصاليّة شمالاً وبدرجة غير مسبوقة. وهي حالة أوجدت مجتمعاً له «سرديّة» مختلفة بشكل كامل عن تلك التي عاشها عراقيو الجنوب طوال الفترة التاليّة للاحتلال، تحديداً لناحية تفكك البنيان الأمني، في مقابل انتعاش هياكل تنظيمية حزبية جديدة، وما صاحب ذلك من استيعاب الدولة لمئات آلاف الموظفين الحكوميين من إداريين وعسكر لتأسيس عناصر الدولة المفقودة، بعدما دمرتها «قوانين» الحاكم العسكري الأميركي وقتها بول بريمر.
نصت المادة الثالثة من قانون «اجتثاث البعث» العام 2005 على التالي: «إعادة تأهيل كوادر «البعث» بأفكار تقدمية ديموقراطية جديدة تحترم حقوق الإنسان والرأي الآخر ونبذ الأفكار القديمة الشاذة من خلال محاضرات تقوم «الهيئة الوطنية لاجتثاث البعث» بإعدادها في دورات مخصصة لهم بغرض إعادتهم إلى الخدمة بشرط أن لا يكونون مدانين في جرائم»، على أن تلاقيها المادة الرابعة من القانون المحدث باسم «المساءلة والعدالة» العام 2008، والتي تؤكد منع «فدائيي صدام» من أي حقوق تقاعدية لعملهم في الجهاز المذكور. هكذا تعكس المادتان وبصورة هزليّة الطبيعة «الانحدارية» على المستوى الدستوري، التي ساهمت في وصول العراق إلى ما هو عليه الآن. فالحديث عن «التقدميّة والديموقراطية»، مهما بدا طبيعياً ورومنسياً وحالماً في فترة ما بعد الديكتاتوريّة، إلا أنه يؤكد اتساع الفجوة الثقافيّة الهائلة ما بين العناصر المكونة للفسيفساء المجتمعيّة العراقيّة، ويذهب بالأمور نحو صناعة عقليّة «فوقيّة» في بغداد، لدى إدارة الملف الشائك في الوسط والغرب، وفي العلاقة مع مكونات المنطقة المذكورة تحديداً.
إعادة إنتاج «المظلومية»
بمعزل عن الحاجات الظرفية في هذه الأيام، والتي لا يمكن الاستعاضة فيها عن الذراع العسكرية القوية للقضاء على تنظيم «الدولة» بشكل حاسم، إلا أن الإصرار على السير بمنتجات دساتير العقد الماضي تمهد الأرض مجدداً نحو إعادة «هيكلة» المظلومية هناك، بخلفياتها المرتبطة بالدولة المركزية، تحديداً لجهة الانخراط بالأجهزة الحكومية. إذ لم يعد ممكناً القول بأن لبغداد القدرة على بسط السيطرة والهدوء في أرجاء الجمهوريّة كافة، خاصة أن التجارب المتكررة تؤكد عدم نجاعة النموذج الأمني في فرض التسوية النهائية، التي يفترض أن تقوم على مصالحة سياسية مجتمعيّة، يعود بموجبها المكون الرئيسي الثاني في العراق إلى أحضان الدولة المركزية، وضمن أسس تقي البلاد من مخاطر التفتيت القادمة من الشمال. إذ إن مغامرة «تنظيم الدولة» أثبتت للجميع أن العراق «الأوسط» ومهما بلغت حدة الحروب المذهبية، حافظ على مشروع الهوية المرتكز إلى خريطة جيوسياسية واضحة، في مقابل «تعجيل» شمالي واضح لتنفيذ أجندات القضم والتوسع القائمة على مشاريع «وطنية»، تقوم في أساسها على القمسة النهائية للوطن الحالي.
بطبيعة الحال، لا يفترض باللقاء المنشود في العراق أن يكون عملاً من جانب واحد فقط. فهو يتطلب تجاوزاً للعديد من «المحظورات» الذاتية التي أدارت الحالة السياسية طوال الفترة الماضية، على أن يكون لتذليل الصعوبات القانونية والدستورية دور في التأسيس لمشاريع المصالحة النهائية. وهنا فإن للحكومة المركزية تجربة واسعة في أثر الاحتضان الأمني في مقابل الحل الأمني، خاصة أن هذا العنصر نجح في تحييد تنظيمات عديدة عن العمل العسكري المعادي للدولة، كتنظيم «الاخوان المسلمين» بأذرعه المتعددة، والذي تحول إلى عضلة عسكرية أساسية في العديد من المعارك الفاصلة، تحديداً في معركة الأنبار السابقة، إضافة إلى انخراط نخبته السياسية في العمل التشريعي والحكومي. وهذا يطرح سؤالاً مباشراً على حكومة بغداد: كيف تمكنت من فهم أهمية التذويب النظامي من خلال الحشد العشائري وقبله «الصحوات»، فيما عجزت عن تبيان أثر «الاجتثاث» ومنع مئات آلاف العسكريين المدربين من العمل ضمن أي جهاز حكومي؟ سيبقى العراق رهين التناقض هذا، عند كل منعطف، أو عند كل مدخل لاستثمار إقليمي أو محليّ.
صحيفة السفير اللبنانية
أضيف بتاريخ :2016/11/25