كاسترو... ورحلتُ مثل السيفِ فرداً
قاسم حسين ..
وأخيراً رحل الزعيم الكوبي والمناضل الأممي العجوز فيدل كاسترو، بعد خمسين عاماً من الحرب والمواجهات التي لم تهدأ... على طريق مقارعة الإمبراطورية الأميركية.
كانت مجرد جزيرة صغيرة تدور في الفلك الأميركي، ضمن مجموعة دول ذات أنظمة تابعة للجار القوي، الذي يعتبرها حدائق صغيرة ملحقة بإقطاعياته. جارٌ كان يتكلّم كثيراً عن الديمقراطية كقديس، ويتصرّف مع جيرانه كشيطان. وكان يملأه الشعور الطاغي بأنه الوارث الأكبر للإمبراطوريات الغابرة: البريطانية والفرنسية، والإسبانية والبرتغالية، والهولنديين والبلجيك.
في الوقت الذي تخلّص هذا الجار من التبعية للبريطانيين، حاول أن يفرض هيمنته على بقية الجيران الصغار. ومنذ منتصف القرن التاسع بدأ هؤلاء يتململون، لتنطلق ثورات السكان الأصليين والزنوج المستعبَدين والخلاسيين المخلّطين.
هذه الجزيرة الصغيرة ظلّت تابعة للأميركي، وظلت نزعة الاستقلال تراودها، فخرجت مجموعة من الشبان، نهاية الخمسينيات، في قارب يتسع لستين راكباً، لكن عدد الثوار كان اثنين وثمانين، فتخلّصوا من بعض مؤنهم ليصلوا إلى الساحل. وتاه بهم القارب «جرانما» في البحر بعد أن ضربتهم العاصفة، فنزلوا في المكان الخطأ، فاصطدموا مع قوات الدكتاتور باتيستا.
هذه المجموعة التي خرجت من المكسيك حاملةً مبادئ الثورة الأممية، كانت مكونة من 79 كوبياً، وثلاثة من الدومنيكان، ومكسيكي وأرجنتيني، لم ينجُ منها غير 15 فرداً. هؤلاء أكملوا مهمة تحرير كوبا، وإقامة نظام اشتراكي، ارتبط بالاتحاد السوفياتي، وأصبح شوكةً في خاصرة الجار القوي، حاول نزعها بغزو الجزيرة، في واقعة خليج الخنازير. وتدخل الروس يومها، لتنتهي الأزمة بسحب الصواريخ النووية السوفياتية، مقابل تخلّي الأميركان عن فكرة الغزو.
خلال فترة الحرب الباردة، أرسل كاسترو جنوده للقتال في البؤر الساخنة، دعماً لحركات التحرر التي تكافح ضد الأنظمة التابعة للغرب، في أنغولا وناميبيا، ودعموا الرئيس الثوري باتريس لوممبا، أول زعيم اشتراكي منتخب في الكونغو، كما دعموا نظام منجستو هيلاميريام في إثيوبيا. كما كان له إسهام كبير في تقويض نظام جنوب إفريقيا عبر دعمه للقوى المناهضة للفصل العنصري «الأبارتهايد».
طوال خمسين عاماً، ظلت هذه الجزيرة بسكانها الاثني عشر مليوناً، خاضعةً للحصار والمقاطعة، فاعتمدت على نفسها وشعبها، وقدراتها الذاتية، واستطاعت أن تطوّر منظومةً صحيةً ذات كفاءة عالية، دخلت بفضلها في سجل أرقام منظمة الصحة العالمية.
ظلت هذه الجزيرة رمزاً للصمود بوجه الهيمنة الأميركية، طوال خمسين عاماً، على بعد تسعين ميلاً من فلوريدا، وبدل أن تنتظر الغزو العسكري، أخذت هي ترسل بجنودها للقتال في ساحات أخرى، وقدمت آلاف الشهداء، من أجل التخلص من بقايا وفلول الاستعمار الغربي في القارة السوداء. وطوال هذه المدة، لم ينحنِ كاسترو، ولم يضعف، ولم تلن له قناة. لقد مثّل أحد رموز التحرر على مستوى العالم في النصف الثاني من القرن العشرين.
الرجل لم يُقِم جمهوريةً مثاليةً، في عالمٍ يندر أن توجد فيه مثل هذه الجمهوريات. يكفيه أنه حاول، أخطأ أو أصاب، لكنه أقام نظاماً يعتمد على نفسه، ولم يستسلم لإرادة القوة العظمى المستبدة حتى بعد انهيار حليفه السوفياتي، أو يخضع لضغوطها الهائلة أو الحصار الاقتصادي أو تضعفه المؤامرات ومحاولات الاغتيال. وكان قريباً من قلوب الناس، ولم يُعرف عنه أنه ورّث لأبنائه قصوراً وعقارات، أو أرصدةً في المصارف بالمليارات.
لقد ظلّ اسماً شامخاً في عالم النضال، وسنذكره نحن العرب بقطع العلاقات مع العدو الصهيوني في حرب رمضان 1973. فالحرّ يفرض احترامه حتى على الأعداء، وفي 2012، اختارته «التايم» الأميركية بين أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم عبر التاريخ.
لقد عاش كاسترو طويلاً، تسعين عاماً حافلةً بالنضال، ورحل الثوري العجوز ولسان حاله يقول... ورحلت «مثل السيف فرداً».
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/11/28