أن تكون صوفيا في محيط سلفي
جعفر الشايب
بين أزقة مكة المكرمة وسككها الضيقة، ومع امتزاج ثقافات ومذاهب وطرق الحجاج والمعتمرين من كل أرجاء المعمورة، تتداخل المساجد والتكايا والزوايا والمقامات، وترتفع الأذكار بالأدعية والموالد، وترى التنوع ظاهرا في كل شيء، حتى الملابس والأزياء البيضاء والخضراء، والعمائم التي تلف الرأس بمختلف أشكالها.
خصائص الحجاز: منذ القرن الثاني الهجري، كانت منطقة الحجاز ساحة مفتوحة ومتفاعلة لمختلف الاتجاهات الفكرية والعقدية والمذهبية في العالم الإسلامي، نظرا لموقعها في الخارطة الدينية، حيث الحرمين الشريفين، وفي وجدان كل مسلم حيث القدسية الدينية، ومجاورة بيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف، اللذين يعتبران أقدس بقعتين لدى جميع المسلمين.
جماعات عديدة قدمت من أنحاء العالم الإسلامي وهاجرت واستوطنت حول الحرمين الشريفين، وأحدَث وجودها تفاعلاً اجتماعياً وثقافياً وفكرياً مع المحيط الذي يجمع بين المستقِر فيها والمتجدِد دوما. برز علماء كبار وانطلقت طرق ومذاهب ومسالك صوفية عديدة من هذه الديار، وشهدت نشاطا بارزا في نشر العلوم والمعارف. يذكر بعض المؤرخين، ومنهم الشيخ حسن العجيمي (ت 1692م) في مخطوطته «خبايا الزوايا لأهل الكرامات والمزايا» أن في مكة المكرمة أكثر من أربعين طريقة صوفية وثلاثمئة تكية وزاوية تقوم بخدمة التابعين لها من كل مناطق العالم الإسلامي خلال موسم الحج بخاصة، وتحظى بالرعاية المالية المستدامة من الأوقاف المخصصة لها بمكة وخارجها، علاوة على ما يُجلب إليها من أموال الصدقة والهبة.
لم تقتصر زوايا الصوفية هذه في الحجاز على جلسات الذكر فقط، بل تحولت على مدى العصور إلى مدارس، ومحطات قوافل، ومراكز تجارية، ومراكز اجتماعية، وحصون، ومحاكم، ومصارف نقدية، ومستودعات، ومآوٍ للفقراء، ومواطن حمى، ومدافن. كما أنها لم يقتصر وجودها على المدينتين المقدستين (مكة والمدينة) فقط بل تعدتهما لتشمل كل طرق مرور قوافل الحجاج والموانئ البحرية كجدة وينبع، والمدن الساحلية والجبلية أيضا وصولا إلى عسير.
التعدد وقبول الاختلاف: ومن أبرز الطرق الصوفية التي كانت سائدة في الحجاز وتهامة والأحساء (شرق السعودية) طريقة السادة آل باعلوي التي أسس معالمها محمد بن علي باعلوي (1180-1255م) وانطلقت من جنوب اليمن، والطريقة البرهانية الدسوقية التي أسسها إبراهيم بن عبدالعزيز الدسوقي (1255-1296م)، والطريقة الإدريسية التي أسسها الإمام المتصوف أحمد بن إدريس من أهل فاس (1758-1837م)، والطريقة السنوسية التي أسسها محمد بن علي السنوسي (1787-1855م) وبنيت لأتباعها زوايا عديدة في مختلف مناطق الحجاز، والطريقة التيجانية التي تزعمها في الحجاز العلامة هاشم بن أحمد سعيد الفوتي (1865-1931م)، بالإضافة إلى العديد من الطرق الصوفية الأخرى، ومنها الطريقة النونية الرفاعية الشافعية التي تأسست في مكة المكرمة.
ويظهر من تعدد الطرق الصوفية في الحجاز أنها لم ترتبط بمذهب فقهي محدد، وإنما عكست حالة من التنوع في الفهم والممارسة، على خلاف الطرق الصوفية التي سادت في بلاد أخرى كالشام وخراسان ودسوق والقدس والبصرة وبغداد وفاس. فقد حافظت الصوفية في الحجاز على حيادية معقولة من المذاهب الفقهية المختلفة، حيث برزت حالات عديدة لطلبة من مذهب فقهي معين يتبعون طريقة لشيخ من مذهب فقهي مختلف. ويعود ذلك لكون المجتمع الحجازي يمتلك بواعث التنوع والتعددية في داخله بسبب طبيعة العوامل المؤثرة فيه كالتجارة والانفتاح على الثقافات المتعددة، والتعاطي المستمر مع الحجاج والزوار على مختلف مذاهبهم وتوجهاتهم. «قدرنا أن نكون في الحجاز، لذا لم يكن لدينا التشدد لأننا نستقبل جميع الناس في موسم الحج بجميع مذاهبهم وطرقهم ومعتقداتهم، وكلهم بالنسبة لنا سواء من دون تفرقة»، هكذا يقول الدكتور سمير برقة أحد أبرز المتحدثين عن الصوفية.
من الناحية العملية، بقيت الصوفية في الحجاز ملتزمة بمبادئ التحلي (البعد السلوكي والأخلاقي) باعتباره معالجة للقلوب وتأكيداً للتسامح المطلق انطلاقاً من مفهوم الإحسان الذي يعتبرونه من أركان الدين. ومن أجل المحافظة على حالة الاعتدال، لم يتعمق صوفيو الحجاز في طرح أفكار التجلي (البعد الفلسفي للصوفية) والتأكيد عليها بصورة جريئة وواضحة، مما جعلهم منفتحين على مختلف التيارات والاتجاهات، أو «التصوف المعتدل» الذي يتقاطع ويتداخل مع مختلف المذاهب الإسلامية، ولا يتناقض معها أو يصطدم بها، وهو ما يعبِّر عنه أبرز مراجعهم بالجمع بين «الشريعة والطريقة». وتنعكس هذه الحالة الإيجابية بين أطياف المجتمع الحجازي حتى في ما يرتبط بالعلاقة بين الصوفية والاتجاهات الليبرالية وغير الدينية، خلاف ما نلحظه في مناطق أخرى كنجد على سبيل المثال.
يلتقي أتباع الصوفية السعوديون مع الشيعة الامامية في محبة أهل البيت وجواز زيارة القبور والأضرحة والاحتفال بالمولد النبوي والمناسبات الدينية، ولكنهم يختلفون عنهم في ما عدا ذلك كما هو الحال بالنسبة لبقية المدارس المذهبية السنية. ولعل هذه الأمور المشتركة بين الصوفية والشيعة هي ما جعلتهم يشتركون أيضا في عداء السلفية لهم، وهي التي تعتبر كل هذه الأعمال من البدع الشركية التي تُخرج من يقوم بها من دائرة الإسلام.
سيطرة السلفية: مرت العلاقة بين السلفية والصوفية بفترات عديدة من الصدام والتوتر، أبرزها مع قيام الدولة السعودية الحديثة في الربع الأول من القرن الماضي، حيث تم خلالها – كما ينقل الباحث زيد الفضيل - هدم مختلف القباب والأضرحة، ومَنْع التوجه لزيارتها، ومنع إحياء المناسبات المتعلقة بالنبي بصورة شعبية، (كذكرى مولده الشريف، والإسراء والمعراج). وتمَّ وقف كل أشكال مجالس الذكر الجماعي، وإغلاق ما كان موجوداً من تكايا وزوايا صوفية، إلى غير ذلك من الأعمال التي قـُصِد منها التضييق وإنهاء أي مسار للتصوف بمنطقة الحجاز.
وينقل الباحث الصباغ أنه وفي حدود العام 1928، أمر رئيس هيئة مراقبة القضاء الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ بحصر الزوايا التي بمكة، ثم دعا مشايخها ورتب لكل زاوية رجلاً من أهل السلف، وقد حاول بعضهم مقاومة ذلك الإحلال، بذريعة تملكهم المباشِر للزوايا التي تلاصق دورهم فعلاً، وأنها ليست أوقافاً عامة، ولكن ذلك لم يُجد نفعاً.
الإقصاء: المرحلة الثانية التي تلت ذلك كانت في إعادة تنظيم المؤسسة الدينية في ستينيات القرن الماضي وما تلاها من سياسات خلقت أرضية لنشوء تيار مذهبي أحادي مارس الإقصاء ضد جميع أتباع المذاهب الأخرى، سواء الفقهية أو الفكرية والسياسية. وهو ما نتج عنه حينها القيام بإصدار العديد من الفتاوى التكفيرية ومحاسبة الزعماء الدينيين للصوفية واستتابتهم، ومنعهم من ممارسة شعائرهم وأنشطتهم الدينية، واستبعادهم من العمل في المؤسسات الدينية التي تم إنشاؤها حينها.
ولعل من الأمثلة البارزة في هذا المجال ما تعرض له العلامة السيد محمد علوي المالكي (1945-2004) والذي يعد من أبرز أعلام الصوفية في الحجاز، ومن أئمة المذهب المالكي، ولقب بمحدِّث الحرمين وله مؤلفات كثيرة في علوم الحديث والفقه، إذ أصدر ما يقارب المئة مؤلف في أصول الدين والشريعة والفقه والسيرة النبوية، ومعظمها طبع خارج السعودية، من بينها «قل هذه سبيلي»، «شفاء الفؤاد بزيارة خير العباد»، «الذخائر المحمدية»، و «المسلمون بين الواقع والتجربة». يعتبر السيد المالكي رمزا دينيا واجتماعيا في الحجاز، وهو عمل على توطيد العلاقة مع مسئولي الدولة والتواصل مع رجالات المؤسسة الدينية وشخصياتها. إلا أن ذلك لم يشفع له، حيث أوصى مجلس هيئة كبار العلماء «أنه ينبغي جمع الأمور الشرْكية والبدْعية التي في كتابه الذخائر المحمدية مما قال فيها أنه خطأ فاته التنبيه عليه، وتطبق على المحضر، ويكتب رجوعه عنها ويطلب منه التوقيع عليه، ثم ينشر في الصحف ويذاع بصوته في الإذاعة والتلفزيون، فإن استجاب لذلك، وإلا رفع لولاة الأمور لمنعه من جميع نشاطاته في المسجد الحرام، ومن الإذاعة والتلفزيون، وفي الصحافة، كما يمنع من السفر إلى الخارج، حتى لا ينشر باطله في العالم الإسلامي، ويكون سبباً في فتنة فئة من المسلمين». ونقل أنه منع من حق الرد بكتاب أو مطوية يدافع فيها عن عقيدته وعن منهج المذهب المالكي، ورفض طلبه بإجراء مناظرة تلفزيونية أمام جميع أعضاء هيئة كبار العلماء، وصودرت جميع كتبه ومجمعاته وبحوثه، وحرم من مقعد بالحرم يقوم من خلاله بتدريس الطلبة ومخاطبة الزوار. شكّل مثل هذا التوجه الحاد في السياسات العامة تحدياً حقيقياً أمام أتباع الصوفية في السعودية، حيث انحسرت العديد من الأنشطة وجلسات الذكر والإحياء، كما غاب عن المشهد الاجتماعي الزي الحجازي المميز بألوانه التراثية الزاهية، وتم تغييب حضور الشخصيات الحجازية الدينية في مختلف وسائل الإعلام. وجرى تعزيز ثقافة الإقصاء والاتهام بالقبورية والشركيات والبدع لعقود طويلة.
لعل مرحلة جديدة دخلتها البلاد بعد أحداث «11 سبتمبر» قادت إلى العودة لمراجعة خطاب الإقصاء وآثاره المدمرة وإلى مبادرة أطلقها الملك عبدالله حينها العام 2004 لاجتماع الحوار الوطني والذي جمع لأول مرة أبرز الشخصيات السلفية مع شخصيات من مذاهب أخرى في السعودية، بينها رموز الشيعة والصوفية. وبدأت من حينها تظهر العمامة الصوفية والشيعية في وسائل الإعلام وفي مختلف اللقاءات العامة بعدما كانت مغيبة تماماً ومنذ زمن طويل. انعكس ذلك أيضا على عودة أتباع المذاهب المختلفة إلى تراثهم، وعادت الحياة مجددا إلى الصوفية عبر تكثيف جلسات الذكر وإحياء الموالد والمناسبات الدينية.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2015/11/15