سبر أغوار السياسة البريطانية تجاه الخليج
د. سعيد الشهابي ..
برغم الزيارة المهمة التي قامت بها السيدة تيريزا ماي للمنامة لحضور القمة السابعة والثلاثين لمجلس التعاون الخليجي، سيظل الغموض يلف أربعة جوانب من السياسة البريطانية تجاه الشرق الأوسط، خصوصا منطقة الخليج: الأول: لماذا هذا التناقض بين تصريحات المسؤولين البريطانيين الكبار. الثاني: ماذا فعلت تيريزا ماي خلال زيارتها، وهل ما طرح في الإعلام حول تلك الزيارة يمثل أهدافها الحقيقية؟ الثالث: هل الموقف البريطاني متناغم مع السياسة الأمريكية أم مختلف؟ الرابع: ما أفق الحضور البريطاني في المنطقة؟
لقد فاجأ السيد بوريس جونسون، وزير الخارجية البريطاني الجميع بتصريحاته التي أطلقها خلال زيارة له إلى ايطاليا، حين قال إن المشكلة تكمن في الحروب بالوكالة التي تشهدها المنطقة نيابة عن السعودية وإيران، وأن استغلال الاختلافات الدينية على الصعيد السياسي يمثل أحد أسباب المشكلة، وأن المنطقة تفتقر لقيادة قادرة وحكيمة. وبرغم ردة الفعل من مكتب رئيسة الوزراء فقد أصر مساعدو جونسون على تمسكه بتصريحاته، وأنها إنما تتحدث عن الواقع ولا علاقة لها بالسياسة البريطانية. ولم تخرج توضيحات داوننغ ستريت عن هذا السياق عندما قالت أن كلمات جونسون لا تمثل سياسة الحكومة. أهو لعب بالألفاظ؟ أم تباين في المواقف؟ أم تعدد للتصريحات لا يؤثر على السياسة العامة؟ أم محاولة لإسكات الأصوات الناقدة للسياسة البريطانية الداعمة للسعودية؟
لكي يمكن استيضاح بعض جوانب تلك السياسة لا بد من التوقف عند زيارة تيريزا ماي للمنامة وحضورها القمة الخليجية. فقد تخللتها تصريحات من المسؤولين البريطانيين تؤكد عمق العلاقات مع الخليج وإصرار بريطانيا على المحافظة عليها، وتحدثت ماي أمام القمة مرتين، وهو بروتوكول غير مألوف، الأمر الذي يضفي أهمية على تلك الزيارة. وتحدث الإعلام البريطاني عن أهدافها المعلنة، خصوصا رغبة بريطانيا في تطوير التبادل التجاري والاقتصادي مع دول مجلس التعاون الخليجي بعد قرارها الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت). كما تحدثت عن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب والحفاظ على امن الخليج، مكررة الشعار المألوف «أمنكم هو أمننا» وهو الشعار نفسه الذي طرحه وزير الخارجية السابق، فيليب هاموند في كلمته بمؤتمر «حوار المنامة» في 2014. ولكن السؤال: هل أن هذه العناوين المعلنة تختصر الزيارة كلها؟ من سياق الأوضاع العامة في المنطقة والاضطراب الأمني والعسكري، خصوصا الحرب التي يشنها التحالف الذي تقوده السعودية على اليمن، يمكن طرح القضايا الأساس غير المعلنة التي كانت وراء زيارة ماي للمنطقة. فالمبالغة في الإطراء بالتعاون البريطاني مع دول مجلس التعاون إنما هي بهدف التعتيم على ما طرح في الجلسات الخاصة خصوصا مع الملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز.
القضية الأولى التي من المرجح أن النقاش دار حولها هي حرب اليمن، وأن البريطانيين، بتشجيع أمريكي، يريدون وقفا فوريا للحرب بعد أن تحولت إلى عبث مضر بمصالح الغرب. وهناك مؤشرات عديدة لذلك التوجه: الأول أنه بعد مرور عشرين شهرا على بدئها، تحولت إلى عبء عسكري وسياسي وأخلاقي على الدول المشاركة، خصوصا بريطانيا وأمريكا.
والمعروف أن المسؤولين البريطانيين أكدوا مرارا أنهم يزودون السعودية بثلاثة أمور: المعلومات الإستخباراتية ذات الصلة بالحرب، الصواريخ والقنابل الموجهة، والخبراء الذين يساهمون في رسم الخطط وتحديد الأهداف المطلوب قصفها. ماذا يعني ذلك؟ في ضوء ما تكرر من «أخطاء» سعودية في الاستهداف وتراكم الضحايا المدنيين الذين تجاوزوا، حسب إحصاءات المنظمات الحقوقية الدولية، 4000 مدني، بالإضافة للمستشفيات والمدارس والأسواق. الثاني: أن بريطانيا أصبحت تخشى كثيرا من اتهامها بالضلوع في «جرائم حرب». يؤكد هذه الخشية تكرر تصريحات مسؤوليها بنفي ذلك. وفي اليوم الأخير من الدورة السابقة لانعقاد البرلمان أصدرت وزارة الخارجية بيانا قالت فيه إنها أكدت ست مرات قيامها بتقييم مجرى الحرب وما إذا كانت جرائم حرب قد ارتكبت، وإنها في الحقيقة لم تقم بذلك التقييم. وفي الأسابيع الأخيرة كرر مسؤولون بريطانيون عدم وجود أدلة على ارتكاب جرائم حرب من قبل قوات التحالف، الأمر الذي تنفيه المنظمات الحقوقية الدولية، خصوصا العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش. وفي الأسبوع الماضي أصدرت الأخيرة تقريرا بعنوان: اليمن: «قنابل أمريكية الصنع تُستخدم في ضربات جوية غير قانونية» بعد استطلاعات ميدانية قامت المنظمة بها في مناطق عديدة من اليمن. الثالث: أن تلفزيون «بي بي سي» بث الأسبوع الماضي، بالتزامن مع زيارة ماي، ثلاثة تقارير ميدانية من اليمن، اثنان منها حول المجاعة التي تعم مناطق اليمن، والثالث حول استهداف الأهداف المدنية اليمنية ومقارنتها بالدمار المحدود الذي أصاب أهدافا مدنية سعودية جراء القصف اليمني.
القضية الثانية التي من المرجح أنها نوقشت بعيدا عن الأضواء الإعلامية تتصل بمشروع الاتحاد الخليجي. فبرغم الزخم الذي طرح في الأيام التي سبقت عقد القمة، توارى الحديث عن الاتحاد فجأة. ويعتقد أن بريطانيا تعارض المشروع لأمرين: الأول أن قيام اتحاد خليجي سيصادر دورها ويحول دون تطوير العلاقات الثنائية مع كل من دول المجلس. فحتى الآن تعتبر بريطانيا الداعم الأقوى لأمن الحكومات الخليجية، سواء بالدعم الأمني أم الإستخباراتي أم الحضور العسكري، أم الدعم السياسي على مستوى المؤسسات الدولية. وليس سرا القول بأن بريطانيا خلال السنوات الخمس الأخيرة منعت صدور أي قرار دولي بتشكيل لجنة تحقيق محايدة في مجريات الحرب في اليمن وما إذا كانت جرائم حرب قد ارتكبت، ثانيا: منعت طرح قضايا حقوق الإنسان للنقاش أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف، ثالثا: ساهمت في وقف صدور بيانات عن الدول الـ 47 الأعضاء بمجلس حقوق الإنسان، أو ساهمت بشكل مباشر في تخفيف لغة البيانات التي صدرت مطالبة بتحسين الأوضاع الحقوقية خصوصا في البحرين.
القضية الثالثة: إن بريطانيا (ومعها أمريكا) قلقتان من التطورات التي تؤثر سلبا على الوضع الخليجي ودور مجلس التعاون والحفاظ على الوضع الراهن في مجال الحكم. ولا شك أن دخول الروس على خط النزاع السوري أمر مقلق للغربيين كما هو مقلق لزعماء المنطقة. بريطانيا تسعى لمنع حدوث خلخلة في التوازن الإستراتيجي القلق نتيجة دخول روسيا على الخط بحماس غير مسبوق، وقدرتها على إعادة رسم المحاور، وظهورها متحالفة مع الأنظمة غير الصديقة لدول مجلس التعاون. بريطانيا تسعى لحماية المنظومة الخليجية لتقوم بدور في الحفاظ على أمن الخليج وأحداث توازن سياسي وعسكري مع إيران التي ما تزال تعتبر في خانة «الأعداء». والواضح غياب الدبلوماسية الواعية لدى المجلس ككيان، وعدم وجود آليات لرأب الصدع بين الدول الأعضاء، خصوصا مع تميز سلطنة عمان بسياسة خارجية مستقلة. السيدة ماي سعت لطمأنة الحلفاء الخليجيين بدعمها الإستراتيجي لهم، في مقابل شيء من المرونة تجاه قضايا شعوبهم، والعلاقات مع إيران، والتصدي للإرهاب بشكل جاد، واحتواء ظواهر التوتر المذهبي والاحتراب الطائفي والتمايز العرقي.
إن من الصعب غصدار حكم على مدى نجاح زيارة رئيسة الوزراء البريطانية المنامة ومشاركتها في قمة مجلس التعاون، لكن الأمر المؤكد أنها خاضت في قضايا إستراتيجية عديدة لم يرشح للرأي العام إلا القليل من مؤشراتها. وبذلك دشنت السيدة ماي حقبة جديدة في العلاقات البريطانية ـ الخليجية لا تقل عمقا عن تلك التي كانت قائمة قبل سحب بريطانيا قواتها قبل 45 عاما. العودة البريطانية الجديدة هذه المرة تحدث في ظروف صعبة من التوترات المحلية والإقليمية، وتواجه منافسة على الزعامة من قوى إقليمية في مقدمتها السعودية وإيران. هذه المرة يبدو أن البريطانيين لم يحسنوا الرهان بخروجهم من أوروبا وتوجههم نحو منطقة ملتهبة، وليس مستبعدا أن يغوصوا في مستنقع سياسي وأخلاقي لم يستعدوا له، فبريطانيا اليوم مختلفة عما كانت عليه قبل نصف قرن، وهو ما يجب أن تستوعبه السيدة تيريزا ماي، رئيسة الوزراء غير المنتخبة.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/12/12