خواطر موضوعية في الطائفة والطائفية
رائد السمهوري ..
المشكل الطائفيّ – كما يبدو لي – مشكل سياسيّ لا مشكل ديني ولا عقائدي، وإن كان يجعل المذهب والدين ذريعة لتحقيق مصالحه السياسيّة
يظن كثيرٌ من الناس أن الحالة الطائفية التي تعيشها بلداننا العربية اليوم، ما هي إلا امتداد لحالة الانقسام المذهبي والفِرَقي في تاريخنا الإسلامي، منذ ظهور الخوارج (وقد ظهروا في عهد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه)، وأنها نتاج المذاهب لا أكثر، وقد قرأت لبعض الباحثين الغربيين أن سبب هذه الطائفية هو الإسلام نفسه، وهذا من أغرب ما يقوله عاقل، فلا الإسلام، والأديان بعامّة سبب للطائفيّة، وقد عاشت أوروبا حروبًا طائفيّة سالت فيها أنهار من الدماء، حتى وصلوا إلى صيغة تعاقدية على وفق دولة المواطنة لا تجعل الطائفة ولا المذهب ولا الدين سببًا لتفضيل مواطن على مواطن، غير أن الطائفية لم تنته كل الانتهاء في أوروبا ذاتها، فلا يزال هناك حديث عن الطائفية في اسكتلندا، ولا تخلو شبكة الإنترنت من بحوث عن هذا الموضوع، وهي طائفية عرقية ومذهبية كذلك.
لا يحمل لفظ "طائفة" في أصله اللغوي أي معنى "قيميّ" ولا "معياري"، أي أنه وصف فقط لا أكثر، لا يحمل في ذاته مدحًا ولا ذمًّا، وقد ورد مرارًا في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي الشريف، غير دالٍّ على ذمٍّ بذاته، وتدور معاني الطائفة على المجموعة التي "تطيف" بالشيء، من دون تحديده بعدد، ولكنّه يشير إلى "العدد اليسير" على أي حال (وهو ما يقودنا إلى الحديث عن القلّة والأقلّية)، وكذلك تدور معاني الطائفة على "الجزء" من "الكل"، فيقال: طائفة من الناس، ويقال: طائفة من الليل، ويقال: طائفة من المال ... إلخ، وفي القرآن الكريم: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}. فالطائفة جزء من الفرقة، التي هي في ذاتها جزء من كلّ.
ومما يدلّك على أن استعمال لفظة "الطائفة" في اللغة أو في العرف لا يدل بذاته على مدح ولا ذم؛ أن الإمام الصوفيّ الشهير الجنيد البغدادي كان يسمّى في التراث الإسلامي "شيخ الطائفة"، والمقصود شيخ الصوفيّة في زمانه، كذلك في الإطار الشيعي عُرِف الشيخ المفيد بأنه "شيخ الطائفة"، أي شيخ الإماميّة في زمانه، وكذلك نجد عند الحنابلة مثل هذا؛ من مثل الإمام البربهاري الحنبلي الشهير، صاحب كتاب السنّة، فقد أطلق عليه الإمام الفرّاء في طبقات الحنابلة لقب "شيخ الطائفة في وقته"، وكذلك أبو عبدالله بن حامد الحنبلي سمّي "شيخ الطائفة".
فلم يجد الشيعة ولا الحنابلة ولا الصوفية بأسًا في أن يطلق عليهم أنهم "طائفة"، ولم يندرج وصفهم أنفسهم هذا في المدح ولا في الذمّ، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كان كثيرًا ما يردد في مؤلفاته لفظة الطائفة والطوائف، فيقول غير ما مرّة إن هذه المسألة قال بها "طوائف من أهل السنة"، وأحيانًا يقول: "طوائف من المنتسبين إلى أهل السنة"، بحسب المقام، وقد يقول في مسألة إنه قد قال بها علماء "الطوائف" من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. ومثل هذا في مؤلفاته كثير لا يحتاج إلى كثير من البحث.
والمقصود أن لفظة "الطائفة" و"الطوائف" لا تقتضي بذاتها مدحًا ولا قدحًا، بل نجد ابن تيمية يستعملها في حق "أهل السنة" من حيث هم طوائف فقهية وكلامية، وفي حق "أهل البدعة" كذلك.
غير أن مشكلتنا اليوم ليست هي الطوائف في ذاتها، فالطوائف بهذا المعنى الذي أسلفتُ موجودةٌ في الأمّة من قديم. لكنّ المشكلة التي تعانيها بلداننا هي "الطائفيّة"، والطائفية – عند أهل النحو – مصدرٌ صناعيّ، يدلّ على صفة في اللفظ الذي صنع منه.
لم يعرف التراث الإسلامي في تاريخه الطويل لفظة "الطائفية"، لكنه عرف لفظة "الفرقة"، وصفًا للفرق العقائدية المعروفة كالمعتزلة والأشاعرة والاثني عشرية والزيدية والإسماعيلية والإباضية وأهل الحديث، ولئن كان بين تلك الفرق نزاعات عقائدية وتعصب بل حروب واقتتال، فإن هذا لا يعني – بالضرورة – أنها طائفية؛ ذاك أن كل تلك الفرق في الأعمّ الأغلب كانت تحمل همًّا تنادي به لـ"مصلحة الأمّة"، على الرغم من وجود جور ومظالم واقتتال منشؤها التعصب لا "الطائفية" بدلالاتها الحديثة، فلقد جرى الاقتتال حتى بين الشافعية والحنفية وهم من أهل السنة، وبين الحنابلة والشافعية، وهم من أهل السنة، وبين الزيدية والزيدية، وبين الشيعة والشيعة، لكن من جهة التعصب لا من جهة الطائفية.
والفرق بين حالة التعصب والطائفية – فيما أرى – أن التعصب يعود إلى المذهب والخلاف العقائدي، أما الطائفية فمحورها هو "مصلحة الطائفة" ولا سيّما المصلحة السياسية والاجتماعية، من دون مراعاة حقوق الآخرين، أي أن الطائفية في مظهرها الحاليّ، تحمل طابعًا مؤسسيًا، ولها خطاب يدور حول الطائفة بما هي طائفة، بغض النظر عن المذهب، وبغض النظر عن الالتزام به، بل يصبح الدين والمذهب هنا وقودًا عاطفيًا متعلقًا بالهوية والانتماء أشدّ من تعلقه بالحق والحقيقة، والخطـأ والصواب. ولهذا؛ من الطبيعي جدًا أن يقود الطائفة الدينية أناس علمانيون جدًا، بل ربما لا يرون الأديان ولا المذاهب شيئًا، وهذا – كما هو ظاهر – لا علاقة له بالتعصب للمذهب، بل علاقته إنما هي بالطائفة من حيث هي طائفة، وهنا تصبح الطائفة ذاتها "أيديولوجيا" يقوم عليها الخطاب الطائفي، وإذا تكلمنا عن الطائفية من حيث هي أيديولوجيا همّها مصلحة الطائفة، مصلحة الجزء لا الكلّ، فنحن نتكلم عن "سياسة"، ولا نتكلم عن "مذهب" ولا عن "عقيدة دينية". ومن هنا؛ فإن المشكل الطائفيّ – كما يبدو لي – مشكل سياسيّ لا مشكل ديني ولا عقائدي، وإن كان يجعل المذهب والدين ذريعة لتحقيق مصالحه السياسيّة.
هاهنا نموذج فريد في بابتِه، وجدير بالدرس والنظر، هو النموذج العماني، فعمان دولة تتجاور فيها الطوائف من السنة والشيعة والإباضية، وقد استطاعت حلّ المشكل الطائفي عن طريق السياسة، ثم جاء التنظير الشرعي ظلًا له بعد ذلك. ما الذي فعلته سلطنة عمان؟ وكيف تحقق لها هذا الإنجاز الذي تغبط عليه؟ هذا ما يستحق دراسة وافية، مجردة عن الأهواء والمصالح والأدلجة، لا تراعي خاطر فلان، ولا تهتمّ بإرضاء علّان، غير الحق والحقيقة، ومراعاة مصلحة "الكل"، لا مصلحة "الجزء".
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/12/26