سياسة أردوغان بعد حرق الجنديين
قاسم حسين ..
يتساءل الكثيرون عن المنحى الذي ستتخذه السياسة التركية اليوم، بعد إقدام تنظيم «داعش» على حرق جنديين تركيين، وقعا أسيرين في قبضته قبل شهر واحد.
التنظيم أقدم على نشر «أفلام رعب» أنتجها في بداية صعوده وسطوته، من أجل كسر إرادة المقاومة لدى المجتمعات التي استهدفها، والتي كانت تقوم على نظرية «التوحش» في حدوده القصوى، لشل حركة الضحايا وسرعة السيطرة عليها.
شاهدنا النسخ الأولى من حوادث الإحراق والإغراق في كل من العراق وسورية، حيث يقتاد ضحاياه في أقفاص حديدية. لكن أشهرها كانت عملية قتل الطيار الأردني الأسير الكساسبة حرقاً، وحادثة القتل الجماعي لعددٍ من المصريين الأقباط على الساحل الليبي. كل هذه الأفلام أخرجت بقدرات فنية وتصويرية عالية، وكانت تهدف إلى «تمكين» هذا التنظيم الإرهابي من إقامة «دولته الإسلامية»، ولكنها عملياً أدت إلى تحطيم صورته المموّهة في عيون أغلبية العرب والمسلمين، وتحوّل الرأي العام ضده.
الفيلم الأخير، كان ضحاياه جنديين من الجيش التركي، وسرعان ما حجبت السلطات مواقع التواصل الاجتماعي الرئيسية، لمنع تداول فيديو الجريمة المروّعة بين الأتراك، حيث من المتوقع أن يدفع ذلك الناس للتساؤل عن هذه السياسة برمتها. فمن المعتاد أن تمر مثل هذه الحوادث دون اكتراث، مادامت تقع في البلدان الأخرى ويكون الضحايا من تلك الشعوب، أما إذا سقطت ضحية واحدة من أبنائها، انقلبت المعادلات وارتجت الموازين وثارت العصبيات.
حين كان العراق على شفا حرب أهلية قبل عشرة أعوام، بقيادة تنظيم «القاعدة»، أعلن الزرقاوي الحرب بين السنة والشيعة، وتسبّب في سفك دماء عشرات الآلاف من العراقيين الأبرياء. ولقيت هذه العمليات الإجرامية هوى واسعاً لدى الكثيرين، ولم يتغير المزاج العام إلا بعد استهدافه ثلاثة فنادق في عمّان، في تفجيرات دموية أودت بحياة العشرات في نوفمبر 2005، كان من بينهم مخرج فيلمي «الرسالة» و»عمر المختار» المرحوم مصطفى العقاد، وأحدثت انقلاباً ضده في الرأي العام. وتكرّر الأمر نفسه حين تعرّض الطيار الكساسبة رحمه الله للحرق بصورة بشعة، على يد «داعش»، حيث ستظل صورته عالقةً بالأذهان لفترة طويلة.
اليوم، يكرّر التنظيم فعلته بحرق الجنديين التركيين الأسيرين، وهو عمل يحمل الكثير من البشاعة والشناعة، ويتنافى مع كل القيم الدينية، والمبادئ المتبعة في زمن الحروب. والطريقة التي تم تنفيذها، باقتياد الأسيرين زحفاً على هيئة الحيوانات، كانت متعمدةً، لما يمثله ذلك من إهانةٍ واستفزازٍ وتحدٍ ليس للجيش والحكومة التركيين، بل لعامة الشعب الذي سيبدأ بالتساؤل: لماذا؟ وإلى أين نسير؟
لم يعد سراً اليوم مدى حجم التدخل التركي في العراق وسورية، فاللعب أصبح على المكشوف، فأردوغان أعلن عن دخول سورية لإقامة المنطقة الآمنة التي كان يطالب بها منذ عامين ويرفضها حلفاؤه؛ كما دخل العراق واصطدم بالحكومة الرسمية التي رفضت تواجده تحت أي مبرر كان، وكان لافتاً إجماع القوى السياسية العراقية على الرفض، رغم أنها لم تكن تُجمع على رأي واحد قط.
أردوغان حاول اللعب على تناقضات القوى في الجوار العربي، خصوصاً في هذين البلدين، سورية والعراق، فيلبس قبعةً، عرقية أو طائفية، لكل بلد. وهي مهارةٌ بدأت تفقد تأثيرها، بعدما وصلت الأمور إلى مرحلة الحسم، كما حدث في حلب وكما يُتوقع حدوثه في الموصل.
«داعش» سبق أن أصدر فتاوى تكفّر أردوغان العام الماضي، لكنه عاد هذه الأيام ليدعو لمقاتلة الجيش التركي، وغزو تركيا، والانتقام منها شر انتقام. وهكذا سيجد أردوغان نفسه في مواجهةٍ مع هذا الغول الخرافي الشرس، في حربٍ لا تنتهي إلا بقطع الرؤوس.
حرق الجنديين التركيين بهذه الطريقة الاستفزازية المذلة، كان توريطاً إضافياً لأردوغان، وإعلاناً بقطع طريق العودة، وحرقاً لآخر الجسور.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/12/26