حوار في التعليم المهني.. أيهـما أجدى النظرية أم السوق؟!
غسان بادكوك ..
هم خمسة مغردين مثقفين ومتخصصين في مجالات عديدة، جمعني بهم فضاء (تويتر) قبل أيام، وحاوروني حول أحد مقترحين كنتُ قد تقدمت بهما لوزيري العمل والتعليم، عبر مقالي الأخير الذي كان بعنوان (مخاطر سوقنا «المكشوفة» لن يغطيها سوى «اللحاف» الوطني). وقبل التطرُّق لآرائهم المعترضة والمؤيدة لرأيي، سأُعرّفكم أولا على (ضيوفي) الخمسة بدءا بالدكتور موافق الرويلي؛ الناشط في محاربة الدرجات العلمية الوهمية، وصاحب الوسم الشهير (#هلكوني)، والثاني هو الدكتور ملفي الرشيدي الأكاديمي المتخصص في إدارة الأعمال، والثالثة هي الدكتورة منى الجهني؛ الأكاديمية المتخصصة في طرق ومناهج التعليم، أما الرابعة فهي المهندسة المعمارية آيلا الشدوي، والخامسة كانت مشاعل بنت خالد؛ طالبة الدكتوراه في إمبريال كوليج بلندن.
ولأن نقاشنا طال، ومساحة المقال محدودة، فسأكتفي بعرض (أبرز) وجهات نظر المحاورين في التعليم المهني بوصفه نمط التعليم الذي يلامس تحدياً وطنيا عميقاً؛ يتقاطع بقوة مع ملف البطالة، ويمكن أن يساهم في خلق فرص العمل لأبنائنا؛ سواء غير الراغبين في الدراسة الجامعية أو غير المهيئين لها، ولأنني وجدتُ الحوار ثرياً بالآراء ومفيداً لأجهزة عديدة معنية بالموضوع، حرصتُ على نقله لقراء «عكاظ»، راجيا أن تنظر وزارتا التعليم والعمل للتعليم المهني باعتباره أولوية، وتباشرا دراسة المقترح، وصولاً لإقرار ما هو أفضل لبلادنا ولسوق عملنا التي ستظل مكشوفة؛ حتى نتمكن من تغطيتها بالكفاءات المهنية والفنية الوطنية؛ يوماً ما.
نقاشنا دار حول هيكلة التعليم الثانوي، لمواءمة (بعض) مخرجاته كي تُلبِّي حاجة سوق العمل، ولتحقيق ذلك كنت قد اقترحت تحويل نسبة متزايدة سنويا من مدارسنا الثانوية لتصبح مهنية وتقنية؛ باعتبار ذلك تحوّلا وطنيا؛ ولكنه من نوع آخر؛ يتعيّن علينا النظر فيه جدياً إذا ما أردنا مواجهة تزايد نسب العمالة الوافدة في سوقنا، وتقليل سيطرتها على قطاعاتنا الحيوية، عبر توفير حواضن كافية ومعتمدة؛ تمدّنا بالكفاءات اللازمة لتوطين ملايين الوظائف التي يشغلها حاليا وافدون، مع التوسع في افتتاح المعاهد والكليات التقنية للراغبين في إكمال دراستهم المتوسطة والجامعية في هذه التخصصات.
اختلاف آراء المحاورين لم يكن على جدوى المقترح ذاته؛ إذ كان هناك إجماع على ضرورة هيكلة تعليمنا والتوسُّع في نشر التعليم المهني، وإنما تركّز النقاش على آليات التنفيذ، أما النقطة الخلافية فدارت حول المستوى الدراسي المناسب لبدء تدريس طلابنا المهارات الحرفية والتقنية والفنية، وكان النقاش قد بدأ بتغريدة ذكرتُ فيها «إن عدد المدارس الثانوية يناهز الـ10 آلاف مدرسة. لنتخيّل عدد المهنيين السعوديين -الذين يمكننا إعدادهم-؛ فقط لو حولنا نصفها لتصبح مهنية وتقنية».
د. ملفي رد بتغريدة قال فيها «المدارس الثانوية يجب أن تبقى ثانوية للتأسيس المعرفي والأخلاقي وليس المهني»، وأيّده الدكتور موافق بتغريدة تعجّبَ فيها قائلا «غريب نشاط الأستاذ غسان في الدفع لتمهين التعليم العام!» موضحاً أن «التعليمِ المهني عادة يكون بعد الثانوية ولا داعي للدفع به في المرحلة الثانوية»، ورغم وجاهة الرأيين، أعتقد أن تسع سنوات من التعليم في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، كفيلة بتزويد طلابنا برصيد معرفي وأخلاقي مناسب؛ لو كان توجُّههم مهنياً، خصوصا لو طوّرنا مناهج الرياضيات والعلوم، وزدنا جرعة اللّغة الإنجليزية، واستبدلنا الحفظ والتلقين بحفز ملكات التفكير الإبداعي لدى طلابنا، وشجّعناهم على البحث عن المعلومة، وتحليلها واستخلاص النتائج منها، مع التركيز على تطبيق القيم الدينية في المعاملات، والالتزام بأخلاقيات العمل في الأعمال.
وفي محاولة لتأكيد جدوى مقترحي، حرصتُ على تذكير محاوريَّ بأن هناك تجارب دولية ناجحة؛ لذلك أجبتُهما بتغريدة قلت فيها «في ألمانيا يُخيّر طلاب (الثانوية) وفقا لرغباتهم واستعدادهم، إمّا للتعليم المهني أو الجامعي»، ولكن الدكتور موافق ظل عند رأيه وقال «هناك تخصصات ومسارات مهنية في مستوى التعليم العام والجامعي، يجب دعمها والتوسع فيها بدلا عن طرحك»، فأجبته متسائلاً «وما هو المأخذ على طرحي؟ ثق بأنني على استعداد لتغيير رأيي؛ لو كان هناك مبرر وجيه»، فأجابني «عليك بنظريات التعليم فهناك تجد الكثير من المبررات والأُسس العلمية»، فعقّبت قائلا «طرحت عليك وجهة نظر محددة، ولكنك جئتني برد (عام) هو قراءة النظريات. أنا أقرأ السوق»، سوق عملنا بالطبع.
وعندما وصل الحوار لهذه النقطة (الحرِجة)، تدخّلت الدكتورة منى لإنقاذي من (مشاكسات) الدكتور موافق بتغريدة قالت فيها «السوق.. هذه مشكلتنا، ولتذهب النظريات هباءً»، ولم يسعني سوى تثمين رأيها بقولي «شكراً د. منى، هذا ما وددتُ سماعه. لدينا مشكلة ضخمة، ود. موافق يقترح تأجيل حلها لحين التعليم الجامعي»، ولأن د. الرويلي لم يقتنع بردّي فقد علّق قائلا «أخي غسان، لايمكن أن يكون (التمدرس) ترياقاً لحل مشكلات المجتمع، التمدرس العام هو لتكوين الإنسان وبناء الإتجاهات»، فأجبته قائلاً «اختلافي مع رأيك ينحصر في مدى (التمدرس)؛ كما أسميتَه. أرى أن تسع سنوات كافية. وترى غير ذلك».
ويبدو أن ردّي الأخير حفّز المهندسة آيلا للمشاركة في حوارنا فقالت «عذراً للمداخلة، في الـ15 سنة القادمة لا مكان لغير المتعلم؛ حتى في المهني»، مضيفة بأن «.. الأتمتة قضت عملياً على المهن» وبالطبع فقد جذب الحوار الشيّق عشرات المغردين، كان منهم الأستاذة مشاعل التي فاجأتني بسؤال مباغت قالت فيه «وهل تظن أن بإمكاننا أن نتطور ونطور اقتصادنا بزيادة نسب المهن الحرفية؟، أم بالتركيز على التطوير المعرفي؟؛ كالحاسب والهندسة وغيرها».
رأي مشاعل أضاف بُعدا جديدا للحوار، لذلك أجبت سؤالها بقولي «سيدتي.. كما نحتاج لأصحاب الياقات البيضاء، نحن بحاجة أيضاً لأصحاب الياقات الزرقاء. أُركِّز على المهنيين، لأننا نفتقدهم»، فعادت للتعقيب قائلة «نعم؛ سنقلل البطالة وسنجد السعودي في جميع المجالات لكن علينا أيضاً التركيز على التخصصات الدقيقة لنواكب الدول المتقدمة»، ولأن رأيها موضوعي فقد رددتُ عليها قائلا «أتفق مع رأيك، وبفضل الله، فإن لدينا حاليا نحو 100 ألف مبتعث في أكثر دول العالم تقدما؛ يدرسون أحدث العلوم في أهم التخصصات، لذلك انصب اهتمامي على التعليم المهني».
انتهى المقال ولكن الموضوع لم ينتهِ، وسيظل قائماً حتى نقرر الأصلح لأمننا واقتصادنا وشبابنا، والأكيد هو أننا مهما تقدمنا علمياً وتنوَّعنا اقتصادياً، سنظل بحاجة دائماً لمن يبني بيوتنا ويطهو طعامنا ويخيط ثيابنا ويُصلح تمديداتنا الصحية والكهربائية ويصون أجهزتنا وسياراتنا؛ والقائمة تطول.
صحيفة عكاظ
أضيف بتاريخ :2017/01/14