ثلاثة مشاهد في الذكرى السادسة لثورة الياسمين
قاسم حسين ..
مرّت أمس الأول، الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني 2017، الذكرى السادسة للثورة التونسية، التي فاجأت العالم العربي بغتةً، فأطاحت بنظام زين العابدين بن علي الحليف للفرنسيين والأميركان.
بدأت الثورة بمنظرٍ تراجيدي هزّ الوجدان العربي، كأنه مشهدٌ مقتطعٌ من إحدى مسرحيات شكسبير، بطله شابٌ في الثلاثينات من عمره، عاطلٌ عن العمل، حاولت شرطيةٌ منعه من بيع الخضراوات على عربة خشبية، ووجّهت له لطمةً على وجهه، وحين شكاها لمركز الشرطة لردّ كرامته، قوبل بمزيدٍ من الإهانة والتحقير. فكان أن التجأ إلى إشعال النار في جسده، احتجاجاً على الظلم والإهانة والاستخفاف بكرامته.
الحادثة وقعت في العام 2010، مع انتشار أدوات التصوير، التي تسهّل عملية التوثيق حتى في المناطق النائية، فشاهد الملايين عبر العالم منظر الشاب وهو يتلوى ألماً وسط اللهب. ولو لم تكن الكاميرا حاضرةً لتسجّل تلك اللقطة، لما كان لها أن تثير كل تلك التداعيات، أو تطلق كل ذلك الغضب والمظاهرات.
الدكتاتور بن علي الذي استولى على الحكم في انقلاب أطاح بسلفه بورقيبة، ظلّ مدهوشاً لأيام، غير مستوعبٍ لما يجري. وكان المشهد التراجيدي الثاني، حين زار الشاب البوعزيزي في المستشفى، ووقف متسمراً أمام الجسد الملفوف بالكامل بالشاش. لم يستوعب الدكتاتور ما جرى، فكل التقارير الأمنية والصحافية، المحلية والأجنبية، كانت تقول بأن كل شيء على ما يرام، والشعب مرتاح. احتاج إلى أسبوعين حتى يستوعب ما جرى، وحينها خرج للشعب التونسي ليخاطبه عبر التلفزة: «الآن فهمتكم»... ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان.
كانت الشوارع تغصّ بعشرات الآلاف من الشباب والرجال والنساء الذين أخرجهم الغضب من منازلهم، لاسترجاع كرامتهم التي استباحها نظام بن علي خلال ربع قرن. كانت جدران السدّ الكبير بدأت تتشقق، وبدأت المياه تتدفق سيلاًَ جارفاً ليغرق المدينة.
الحوادث كانت سريعة ومتوالية وصاعقة، فاضطر الرئيس إلى الهرب بطائرته تحت جنح الظلام. كان يريد اللجوء إلى صديقه الحميم ساركوزي، رئيس فرنسا الحليفة، وحاول الاتصال به من الجو فلم يرد على مكالمته، وحين اقترب من حدود فرنسا أُغلِقت الأجواء بوجه طائرته، في رسالة واضحة بأنه لم يعد شخصاً مرغوباً فيه، فغيّر مسارها إلى مكان آخر.
ثورة الغضب هذه بدأت شراراتها بالتطاير في الهواء باتجاه الشرق، فطالت الجارتين مصر وليبيا، وأخذت تهزهما هزاً عنيفاً. وأخذ الوهج يصل إلى بلدان أخرى، متجاوزاً شبه جزيرة سيناء، صعوداً إلى سورية شمالاً، ونزولاً إلى اليمن جنوب الجزيرة العربية، وأخذ يحوم حول دول أخرى. فالحريات مطلبٌ عامٌ لكل البشر، والكرامة حين تمس وتهان، تكون أكبر باعث على تحريك النفوس.
من المشاهد الخالدة لتلك الثورة، ما حدث في ليلة الهروب تلك، حين وقف أحد الرجال وهو يصيح في وصلةٍ هستيرية غاضبة: «لقد هرمنا»، غير مصدّق بانتهاء المحنة وزوال كابوس الدكتاتور بن علي. وظلّت هذه الكلمة تتردد في صدور الملايين من سكان منطقة الشرق الأوسط المستباح.
اليوم، يسترجع العرب مسلسل ما جرى من إجهاضٍ للربيع العربي؛ وقمع طموحات شعوب المنطقة في غدٍ أفضل، من الحرية والكرامة والعيش اللائق بحياة البشر؛ وإغراق ثوراتهم بالطائفية والإرهاب والتكفير والدم. كأننا قومٌ حُكم علينا بعدم التعلّم من دروس التاريخ، حاملين على ظهورنا صخرة سيزيف إلى أعلى الجبل لتهوي بنا إلى العالم السفلي في قعر الجحيم، لنعيد تكرار التجارب البائسة في استلاب واستعباد الشعوب.
في الذكرى السادسة لثورة تونس الخضراء، نقول للبوعزيزي وشهداء وطننا العربي الكبير، ما قاله نزار قباني لأطفال الحجارة في فلسطين المحتلة: يا أحباءنا الصغار سلاماً... جعل الله يومكم ياسمينا.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2017/01/16