الأمير الأسير
محمد عبدالله محمد
لا يوجد عربي أو مسلم (أو حتى مؤرخ أو مستشرق) لم يسمع بالأمير عبدالقادر الجزائري. حفظنا اسمه مُذْ كنا صغاراً، وتعلَّمنا عن جهاده الطويل في المدارس ضد المستعمر الفرنسي للجزائر. وبالمناسبة، فإن اليوم، الثالث والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني يُصادف ذكرى وقوع هذا الأمير في الأَسْر بعد جهاد استمرَّ 15 عاماً ضد الجيوش الفرنسية المحتلة. والبعض يقول إن تاريخ أَسْرِه هو الثامن من / تموز سنة 1847م.
ورغم أن الجهاد هو «بَابٌ من أبواب الجنة، فَتَحَهُ الله لخاصَّةِ أَوليائِه» كما جاء، وأن من الجدير أن يُربَط اسم الأمير الجزائري به إلَّا أن هناك جانباً آخر لهذه الشخصية لم يُسلَّط عليها الضوء كثيراً، وهي التي تتمثّل في مكانته العلمية التي كان لها تأثير على المحيط الممتد من الجزائر حتى الشام. لذلك، آثرت أن أكتب عن هذا الجانب في شخصية الأمير عبدالقادر الجزائري ونحن نعيش الذكرى الـ 168 لوقوعه في الأسر. فبمثل ما عُرِفَ به من جهاد يجب أن يُعرَف كونه صاحب علم وفضل.
وُلِدَ عبدالقادر الحسني الجزائري في 26 سبتمبر/ أيلول العام 1807م في القيطنة وهي إحدى ضواحي مسقرة بايالة وهران بالجزائر. أما نسبه فهو يمتد إلى الإمام علي بن أبي طالب، حيث جاء أنه نجل السادة محيي الدين بن المصطفى بن محمد بن المختار بن عبدالقادر بن أحمد المختار بن عبدالقادر بن أحمد بن محمد بن عبدالقوي بن علي بن أحمد بن عبدالقوي بن خالد بن يوسف بن أحمد بن بشار بن محمد بن مسعود بن طاووس بن يعقوب بن عبد القوي بن أحمد بن محمد بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبدالله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب. لذلك قال عنه الأمين في الأعيان وعن سائر العلويين الذين ببلاد المغرب أنهم «من ذريات الأدارسة».
وقد منحته تلك المكانة والشرف فضلاً عن العلم، وجاهة اجتماعية ودينية كبيرة في عموم الجزائر ومحيطها منذ أن نشأ. لذلك وعندما احتلّ الفرنسيون الجزائر في يوليو سنة 1830م بُويِع كي يقود الجهاد ضد المحتلين وكان حينها يبلغ من العمر 23 عاماً فقط. لكن، ومثلما كان الجزائري أميراً ومجاهداً وقائداً عسكرياً كان أيضاً عالِماً وأديباً وناظماً وناثراً وصوفياً كما عُرِّف في المصادر.
فقد ترك كتباً عدَّة كـ ذكرى العاقل وتنبية الغافل، والمقراض الحاد، ووشاح الكتائب وزيّ الجندي المحمّدي الغالب، ومجموعة كبيرة من المراسلات الفقهية، وديواناً للشعر. وكان له اتصال علمي بمشارق الأرض ومغاربها، خصوصاً بعد أن نُفِيَ من بلده الجزائر إلى مدينة رودس اليونانية، ثم ليستقرَّ في دمشق العام 1833م حيث بقي فيها حتى وفاته سنة 1883م، أي أنه مكث فيها خمسين عاماً.
والذي يظهر أن مجيء الأمير عبدالقادر الجزائري إلى دمشق قد شجَّع كثيرين من المغاربة لأن يأتوا إلى منطقتَيْ لبنان وسورية، حيث لم تكن هناك حدود معلومة تفصلهما. فقد ذكر محسن الأمين خلال ترجمته للشيخ موسى ابن الشيخ أمين شرارة العاملي أن في عهده «زار الأمير عبدالقادر الجزائري قرية ديشوب التي يقطنها المغاربة وهي مجاورة لجبل عامل». ولا يُعلَم إن كان أؤلئك ضمن المجموعة التي رحَّلتها فرنسا إلى خارج الجزائر أم أن لإقامتهم هناك قصة أخرى.
وعندما كان المترجمون يأتون على ذكر الكثير من العلماء يُشيرون إلى تتلمذهم على يد الأمير عبدالقادر الجزائري، وأنهم كانوا ملازمين له كأستاذ لامع. فقد جاء في ترجمة الشيخ الطيب بن الشيخ محمد المبارك الدلسي المالكي أنه قرأ الفنون من العلوم على سادة أفاضل» منهم الأمير السيد عبدالقادر الجزائري الحسني، الذي كان يُدرِّس الفتوحات المكِّيَّة للشيخ محيي الدين بن عربي. وقد أرسله الأمير مع آخرين إلى مدينة قونية بهدف مطابقة كتاب الفتوحات على خط مؤلفها بن عربي - الذي كان يفصله عنه أزيد من ستة قرون - وإصلاح النسخ الموجودة» كما يذكر ذلك عبدالرزاق البيطار الدمشقي في حلية البشر.
وجاء في تصدير الطبعة الأولى لكتاب شذرات الذهب لـ ابن العماد أحد أشهر مؤرخي القرن الحادي عشر الهجري، وذلك في سنة 1350هـ - 1351هـ والذي قامت بإصداره مكتبة القدسي بالقاهرة في ثمانية مجلدات كُتِبَ أنه مطبوع وفقاً للنسخة المحفوظة في دار الكتب المصرية، بالإضافة إلى عرضه على نسختين أخريين في ذات الدار «بعضها بنسخة الأمير عبدالقادر الجزائري» كما جاء، وهو ما يعكس اهتمامات الرجل العلمية وحرصه على حفظ التراث من التحريف.
وإلى جانب غزارة علم الأمير عبدالقادر في علوم الدِّين، فقد كان بارعاً في العلوم العقلية والفلسفية وكافة المنتج اليوناني فيها. كما كانت له اهتمامات بالطب لم أجد مَنْ تحدّث عنها بإسهاب.
وإلى جانب كونه عالماً بارعاً كان صاحب رؤية وحدوية. وقد دلّلت على ذلك حوادث كثيرة، أذكر هنا حادثة وقعت في دمشق. فعندما استقرّ الحال بالأمير عبدالقادر الجزائري هناك حصلت فتنة كبيرة، وقع الحَيْف والاعتداء فيها على المسيحيين في سورية، فما كان من الأمير الجزائري إلَّا أنْ بادر وحمى المسيحيين وقدَّم المساعدات العينية لهم، وهي حادثة لا ينساها التاريخ الدمشقي مطلقاً.
هذه إطلالة سريعة عن الجانب العلمي الذي كان يتمتع به الأمير عبدالقادر الجزائري. وهو جدير بأن يُبحَث بشكل أوسع مما هو عليه الآن.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2015/11/23