الحرب الأهلية: تاريخٌ من الرعب
عامر محسن
«... نغني أنشودةً عن شعبٍ جبّار، يضرب أحشاءه بسيفه،
عن القريب يواجه قريبه،
عن الذنب الجماعي، عن بيارق مصطفّة في المعركة ضدّ بيارق،
عن نسورٍ تواجه نسوراً، عن حربةٍ تهدّد حربةً مثلها،
أيّ جنون كان ذلك، أيها المواطنون؟»
الشاعر الروماني لوكان
«في الحروب الأهلية خصلةٌ مميّزة أسوأ من باقي أشكال الحرب، وهي أنها تجبر كلاً منّا على تحويل منزله إلى حصن»
ميشال دو مونتين
«السياسة هي استكمالٌ للحرب الأهلية»
ميشال فوكو
بحسب كتاب دايفيد آرميتاج ــ أستاذ تاريخ الفكر في هارفارد ــ عن الحرب الأهلية (منشورات ييل، 2017)، فإنّ «الحرب الأهلية» في الفكر السياسي الغربي هي تقليدٌ رومانيّ بامتياز. في اليونان القديمة، كان التعبير المستخدم للحرب (بوليموس) يعني حصراً الحروب بين «الأجانب»، ولو كانت بين مدنٍ يونانية مختلفة.
أمّا المشاكل بين المواطنين أو الفتنة داخل المدينة، فإنّ لها جذراً لغوياً مختلفاً بالكامل (ستاسيس) لا يفيد معنى الحرب. في روما فقط، ومنذ روما، تحوّلت الحرب الأهلية إلى شكلٍ رسميّ وعنيفٍ ومتكرّر من الحرب، ليس أقلّ ضراوةً أو خطراً على الدولة من الحروب ضد الأعداء الخارجيين. كلّ من كتب عن الحرب الأهلية في أوروبا، حتى فترةٍ قريبة، كان يبدأ من التاريخ الروماني وقصيدة لوكان الشهيرة عن القتال المرير بين الرومان، لينظّر للحرب الأهلية، ويبحث في أسبابها، ويناقش في الوقاية منها.
أوصى المؤرّخ الروماني القديم، تايتوس لابيينوس، بأنّ «النسيان» هو الدفاع الحقيقي الذي يمتلكه المجتمع السياسي في وجه فظاعات الحرب الأهلية. فكان منذ ذلك الزمان صوتاً يعارض النظرية «الحديثة»، التي خرجت من الأكاديميا والمؤسسات الغربية في العقود الماضية، وهي تصرّ (من غير دليلٍ تجريبي) على أنّ العنف والمجازر بين الناس يمكن أن نتجاوزها اذا استمررنا في الكلام عنها بلا توقّف، ووثّقنا فظاعاتها بكلّ تفاصيلها ورسّخناها في ذاكرة الناس ــ كنوعٍ من «تطهّر» (في مسلسل أميركي جديد، تقول إحدى الشخصيات، كأنّها تدلي برأيٍ في نقاشنا هذا، ما معناه: «الجميع في عالم اليوم يقول لك إنّه يجب أن تعبّر عن مشاعرك، وأن لا تتركها دفينة. في الحقيقة، هناك الكثير ممّا يجب أن يُقال عن مزايا كبت المشاعر وتعليبها وعدم تفجيرها في نفسك وفي الآخرين»). كتاب آرميتاج هو ليس تأريخاً للحروب الأهلية على مرّ العصور، بل هو تأريخٌ للأفكار عن الحرب الأهلية، وكيف تغيّرت مع الزمن، وكيف ننظر ــ في كلّ حقبة ــ الى حروب الماضي بعدسةٍ جديدة. فكما يقول مثلٌ روسيّ، اقتبسه آرميتاج في نهاية كتابه، «إن الماضي غير قابلٍ للتنبّؤ».
التقليد الروماني
يرى بعض المؤرخين أن الرومان قد رفعوا السيوف بعضهم ضدّ بعض منذ لحظة إنشاء مدينتهم، حين قتل المؤسّس روميليس أخاه ريموس، وأعطى اسمه للمدينة، حتّى إنّ أحد المؤرّخين المتأخّرين حكم بأنّ «أسوار روما قد جُبلت بالدماء». في الحقيقة، إنّ السلسلة الطويلة للحروب الأهلية الرومانيّة قد ابتدأت في مرحلةٍ محدّدة، بعد سقوط قرطاجة وتوسّع سلطة روما في المتوسّط، واستمرّت بلا توقّف تقريباً لما يقارب قرناً ونصف قرن من الزمن، حين حلّت الجمهوريّة في نهاية الأمر وأُسّس عهد «السلام الامبراطوري» في روما مع الامبراطور أوغسطين وأسلافه.
الرومان يؤرّخون لعهد الحرب الأهلية مع دخول سُلّا الى روما، للمرة الأولى، على رأس جيشه (87 ق. م.) وأخذ المدينة بالقوّة. وقد تبعه في ذلك يوليوس قيصر، بعد أربعين سنة، حين عبر جيشه نهر «روبيكون» وأطلق موجة حروبٍ مرعبة جعلت الحرب السابقة بين سُلّا وماريوس تبدو اشتباكاً وديعاً بالمقارنة (إذ لم يُقتل خلالها سوى مئات، أو آلاف، الرومان بدلاً من مئات الآلاف في حربٍ رومانية «عالمية»، دارت معاركها بين إيطاليا وسواحل قصيّة في المتوسّط).
في الحقيقة، فإنّ العقود التي سبقت دخول سُلّا الى روما يمكن أيضاً اعتبارها سنوات حربٍ أهليّة، وإن أعطاها الرومان المعاصرون أسماءً مختلفة (كما يكتب آرميتاج، حتى يوليوس قيصر كان يتجنّب، في كتبه الكثيرة، توصيف صراعاته على أنها «حرب أهلية»). فقد كانت هناك «الحرب الاجتماعية»، بين روما وحلفائها الايطاليين الذين طالبوا بالمواطنة المتساوية وبالحقوق السياسية، ثمّ تبعتها «حروب العبيد» التي توّجتها ثورة سبارتاكوس والحملة ضدّه، قبل أن تنطلق المعارك الكبرى بين الفصائل الرومانية النبيلة.
حتّى السياسة في تلك المرحلة اكتست طابع الحرب الأهلية. يروي آرميتاج كيف تمّ قتل تبيريوس غراتشوس وأخيه الأصغر غايوس، وهما سياسيّان كانا يمثّلان الجناح «الشعبوي» في السياسة الرومانية. حاول غراتشوس الأكبر أن يمرّر قوانين تعطي الفئات الشعبية ــ عملياً ــ سيطرةً على القرار السياسي، وتحدّ من حجم الأراضي والثروة التي يحقّ للنبلاء امتلاكها، وقد حازت أفكاره الإصلاحية شعبيةً كبيرة بين الطبقات الدنيا في العاصمة. قام الجناح الارستقراطي عبر ميليشياته بقتل غراتشوس مع 350 من أتباعه، وأُلقيت جثّته في نهر التيبر. ثمّ لاقى أخوه الأصغر غايوس مصيراً مشابهاً حين حاول استكمال درب أخيه، مع قدرٍ أكبر من القسوة الرمزية، إذ قُطع رأسه وتمّ ملء جمجمته بالرصاص الذائب، قبل أن يُلقى بجثّته ــ هو الآخر ــ في التيبر، وهكذا انتهت الحركة «الاشتراكية» في روما وأعلن الفصيل الارستقراطي انتصاره واحتكاره السياسة.
المفهوم الذي نملكه اليوم عن «الحرب الأهلية» يجد مثاله في روما: المعارك الكلاسيكية الكبرى بين جيوشٍ ترفع الأعلام ذاتها، وعشرات الفيالق والنسور يواجه بعضها بعضاً. العنف اللامحدود ضد المقاتلين والأنصار. الحرب داخل العائلة نفسها؛ بل إنّ طرفي الحرب الأهلية الكبرى في بداياتها، يوليوس قيصر وبومبي، كانا قريبين، إذ إن قيصر زوّج ابنته لبومبي قبل أن يصبح عدوّه اللدود. في تلك الفترة تمّ رفع الحظر التاريخي عن الاحتفال بنصرٍ أهلي عبر «موكب نصرٍ» في قلب المدينة (إذ كان الموكب والعرض العسكري وإكليل الغار تحقّ حصراً لمن يسجّل نصراً على عدوّ أجنبي)، حين سيّر يوليوس قيصر موكباً عظيماً للاحتفال بقهره لأعدائه، ليتبعه أوكتافيوس بموكبٍ مشابه إثر الانتصار على آخر منافسيه، مارك أنطوني، واعتلائه عرش روما. وقد ظلّ إعدام أشهر مفوّهي روما ومثقّفيها وسياسيّيها، سيسرو (وتعليق رأسه المقطوع ويديه، لأيام، على منبر الـ«فوروم» الروماني حيث كان يخطب) تمثيلاً رمزياً لقسوة الحرب بين المواطنين وعنفها الفائق.
معنى الحرب الأهلية
منذ روما، يقول آرميتاج، خرجت ثلاثة «أنماطٍ» لتفسير الحرب الأهلية داخل مجتمع سياسي، نجد صدىً لها في كلّ نقاشٍ عن الموضوع اليوم. التفسير الأوّل هو أنّ الحرب الأهليّة هي نتيجة «طبيعية» لتطوّر المدينة وثرائها وتعقّد مصالحها؛ «ضريبة الحضارة» بمعنى ما، وقدرٌ لا يمكن تجنّبه أو تلافيه (على نسق نظريات حديثة تقول إن العولمة والاقتصاد الرأسمالي يخلقان حالة حربٍ أهلية كونية، أو قول فوكو وآغامبين إن الحوكمة والسياسة اليومية ما هما إلّا شكلٌ مخفف من الحرب الأهلية). التفسير الثاني هو أن انهيار الجسد السياسي سببه تضارب المصالح وغياب مركز واحد لـ«السيادة»، والدليل هو انتهاء دورة الحرب في روما مع إنشاء الامبراطورية وتكريس الامبراطور حاكماً أوحد. والتفسير الثالث (مثّله، في حينها، القديس أوغسطين) هو أنّ الحرب الأهلية هي نتيجة الطمع البشري ومحاولة بناء «مدينة أرضية» والابتعاد عن القيم الروحية الإلهية (وهو يوازي التفسيرات الحديثة عن الانحراف الايديولوجي، أو «انحراف الثورة عن ثوريتها»، كسردية للعنف والحرب والانهيار).
بمعنى آخر، وهذا الدرس الأساسي من كتاب آرميتاج، فإنّ في وسعك أن تستخلص من هذا التعبير المرعب «الحرب الأهلية» الدروس التي تريدها. استخدم مفكرون كهوبس أو غروتيوس شبح الحرب الأهلية لتبرير الحكم المطلق، فأيّ حكمٍ ــ في رأي المنظر القانوني الهولندي غروتيوس ــ هو أفضل من حكم الحرب الداخلية. أمّا الليبراليون كجون لوك والغرنون سيدني، فقد استخدموا المنطلق ذاته للقطع بضرورة إنهاء الحكم المطلق. سيدني حاجج بأنّ الحرب الأهلية تأتي من الملكيات وصراعات الخلافة، فالحكم الشعبي ــ إذاً ــ هو الضمانة الوحيدة ضد الاقتتال، فيصبح عزل الملك، أو قتله حتى، واجباً لحماية البلد من دورات العنف (حاول سيدني أن يطبّق نظريّته على أرض الواقع، فحكم عليه بالإعدام عام 1683 بتهمة التآمر على حياة الملك).
أمّا الوهم الأكبر، بحساب كتاب آرميتاج، فهو محاولة التفريق بين «الحرب الأهلية» و«الثورة». «الثورة» تعبيرٌ حداثي، تقول حنا أرندت، خرج ليستبدل مفهوم «الحرب الأهلية» بشعارٍ «تقدمي» و«إيجابي» وتغييري، ولكنه جملةٌ ايديولوجية وقيمية، من المستحيل تفريقها في الواقع عن الحرب الأهلية. «الثورة الأميركية» كانت، من وجهة نظر الكثير من معاصريها، حرباً أهلية بين إنكليز ينتمون الى عرقٍ وثقافة (وعائلات) واحدة، بعضهم يسكن المستعمرات والبعض الآخر في المتروبول. «الثورة الفرنسية» تصبح ثورة جميلة فقط إذا ما تناسينا مظاهر «الحرب الأهلية» فيها ــ وهذا لا يقتصر على مرحلة «الرعب»، بل القمع العسكري ضدّ «أعداء الثورة» في الفترة اللاحقة، فيذكر آرميتاج مثلاً أنّ القمع «الثوري» للتمرّد في غرب فرنسا كلّف أكثر من 150 ألف ضحية. بمعنى آخر، «الثورة» هي حربٌ أهلية تنتصر فيها وتؤسّس لعهد جديد، فتسمّي الماضي ما تشاء (من هنا، الانقلاب العسكري، السريع والناجح، غالباً ما يطلق على نفسه اسم «ثورة»). هذا درسٌ مهمٌّ لمحبّي «التثوير»، ولمن يعتقد أن الثورة هي «الحل السهل». قبل أن تعلن ثورتك، انظر الى المجتمع وموازين القوى، وفكّر في المسألة على أنّها حربٌ أهلية، وهل أنت قادرٌ على الفوز فيها قبل أن تشعلها؟ (في فلسفة الأميركي جون راولز، الشرعية الوحيدة في الحرب الأهلية هي للطرف الذي يعتمد أجندة تقدمية تحتوي جميع المواطنين وتساويهم، ولا تفرّق ولا تميّز ولا تقصي أحداً).
خاتمة
في كتاب آرميتاج مشاكل عديدة، لا مجال لذكرها هنا، فهو ــ مثلاً ــ يكتب تأريخاً عن الحرب الأهلية في الفكر الغربي فحسب ويقدّمه على أنّه تأريخ عالمي. يصرّ آرميتاج بشدّة على أهمية التعريفات والتصنيفات، لأنها ــ في رأيه ــ تحدّد «الحقوق القانونية» للناس في حالة الحرب، وحق التدخّل والحماية وإنقاذ المدنيين، كأنّ هذه «الحقوق» هي واقعٌ قائم في عالم اليوم. ولكنّ هناك أيضاً أمثولات مهمّة، إذ يقول آرميتاج إنّ الحروب الأهلية تختلف عن تلك بين الدول في جانبين: هي أطول إجمالاً، تستغرق ما معدّله عشر سنوات، وهي لا تنتهي إلّا عبر انتصارٍ ساحقٍ لطرفٍ على آخر (على عكس الحروب الدولية التي تختم أكثرها معاهدات وتسويات). هذه النتيجة، التي تدعمها أمثلة التاريخ، تُبطل المقولة الأخلاقوية عن أنّه «لا يوجد رابح في الحرب الأهلية». على العكس يقول آرميتاج، فإن الحروب الداخلية التي انتهت إلى «تسوية» وضمانات دولية غالباً ما تعود الى الاندلاع ما إن يغيب دور الضامن الخارجي. من الساذج، إذاً، أن تستخفّ بالحرب الأهلية وبرعبها وأهوالها، ولكنّ من الخطير، في الآن ذاته، أن تصدّق بأنها غير قابلة للكسب.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/05/15