مفارقات الحياة المقلوبة في بلاد العرب
علي محمد فخرو
بلاد العرب هي من أكثر بلدان العالم تعايشاً مع المتناقضات وقبولاً لأن تكون مجتمعاتها على شكل هرم مقلوب، يجلس على رأسه بدلاً من الاستقرار على قاعدته.
المفارقات تلطم وجه الإنسان العربي في كل لحظة من حياته لتحيله إلى شخصية ثنائية التركيب الشعوري والذهني والروحي. تفرض الحياة العامة على هذا الإنسان أن يتساكن فيه الغضب والدُعة، الأمل واليأس، الفرح والحزن العميق، القول المبدع والفعل البائس.
نحن العرب نقرأ ونسمع شجب قادتنا السياسيين للتدخلات الخارجية الاستعمارية في كل شأن من حياتنا، لكن ما أن يخرجوا من اجتماع مع مسئول كبير في الدولة التي تتدخل بأقبح الصور في شئوننا الداخلية وترفع أشنع مطالب الابتزاز المالي والعسكري والسياسي، كما تفعل أميركا، إلا ويشيدون بالصداقة التاريخية واتفاق الرؤى والأهداف السياسية الإستراتيجية، ويؤكدون ذلك من خلال المصافحات الحارة وتبادل القبلات على الخدود والابتسامات العريضة على الوجوه.
يسأل الإنسان العربي المشوش الذهن: هل أميركا دولة عدو؟ إذ يشهد على ذلك انحيازها التام للكيان الصهيوني واحتلالها للعراق زوراً وبهتاناً وأدوارها الغامضة في تدريب وتسليح وتمويل هذا الفصيل الجهادي التكفيري الإرهابي أو ذاك، أو في دعمها لهذه الحركة الانفصالية أو تلك، أم أن أميركا دولة صديقة؟ وتزداد صراعاته النفسية إلى حد الجنون عندما يشاهد ولائم الأعراس والتفاخر تقام على شرف هذا المسئول الأميركي المتخصص في الشتم والتهديد والابتزاز أو ذاك المتخصص في الكذب وبيع السلاح.
من مفارقات أزمتنا التي تحيرنا أن يتكلم المستبدون عن إزاحة هذا الدكتاتور عن ذلك الشعب المظلوم في مجتمعات الآخرين ويطالبون بحقوق الشعوب الديمقراطية بينما يمارسون القهر والاستئثار بكل السلطات.
من مفارقات الحياة الاقتصادية في بلاد العرب أن يزداد أغنياء العرب غنى ورفاهية إلى حدود الفحش، ومن خلال الانغماس في الفساد المالي والتجاري والمضاربات في أسعار متخيلة وهمية لأسهم الفقراء المديونين المرتهنين، بينما يزداد الفقراء فقراً وعوزاً من خلال الانغماس في أوهام الاستهلاك المظهري والاعتقاد وبأكاذيب ما ستأتي به الأسواق العولمية الحرة المدمرة لكل ما هو وطني ومحلي، والتي تروجها أبواق أولئك الأغنياء الإعلانية. ولقد وصلنا إلى حالة ما كتبه أحدهم على جدار أحد مدن أميركا اللاتينية: «حاربوا الفقر والجوع ، كلوا الفقراء».
من مفارقات أيامنا الحزينة الحالية أن أخبار القتلى والمشردين والمهجرين والمستباحة أعراضهم تتكلم أكثر وبصورة أوضح وأقوى من كل التعليقات والتحليلات السياسية وقصائد المديح في الانتصارات الوهمية المغموسة بدماء الضحايا المدنيين الأبرياء، ودموع أطفال العرب الهائمين على وجوههم في مخيمات الإذلال والعار، والتكفير عن الذنوب، وتسكين صرخات الضمير. ويا لمفارقة كلمات التعاطف والحب والرحمة لهذا الشعب المنهك أو ذاك التي تقابلها ممارسات القسوة والحروب العبثية وانتظار الحلول التي تأتي ولا تأتي، لتبتعد في الأفق المجنون البعيد.
من مفارقات المشاهد العربي للتلفزيون والمستمع للإذاعات أن الآلة الإعلامية، التي تنادي ليل نهار بالوحدة الوطنية، وبالأخوة الإسلامية والعروبية، وبالتضامن الإنساني، هي نفسها التي تصدح بأنغام الخلافات الفقهية الطائفية العبثية التي تخطاها الزمن، وبتأجيج الحزازات القبلية والقطرية، وبخلق أعداء وهميين مكان الأعداء الحقيقيين، وبالانشغال بما قاله هذا المعتوه السياسي أو ذاك بدلاً من التركيز على تقديم الحلول ومداواة الجراح. وفي خضم كل ذلك الجدل يقضى على جمال التنوع الإنساني في الأفكار والمشاعر الدينية، وفي تنوُع الثقافات الفرعية، ليحل محله الإصرار على وحدة مفروضة بلا طعم ولا لذة.
من أكثر المفارقات الحالية تشويشاً أن يكثر النقد والتجريح لعنف الحراكات العنفية المجنونة، بينما يتجاهل النقاد عنف الدولة في هذا البلد العربي أو ذاك، فتحت شعار حق الدولة في ممارسة العنف لحفظ النظام يتعايش البعض مع شتى الممارسات الأمنية غير الضرورية.
وفي أجواء هرج ومرج العنف المتبادل ينسى الكل بأن السماح بتفشي الفقر والجهل، وغياب الديمقراطية والرأي العالم المراقب، هي العنف في أتعس صوره. ولايرى أصحاب الامتياز في ممارس العنف إلا طبيعة منحرفة، تماماً كما لا يرون في الفقر إلا كسل الفقراء وقلة اجتهادهم وضعف عزائمهم.
وإذ نعيش مفارقات الحاضر لا ننسى مفارقات الماضي القريب التي تميزت بأن بعض الأنظمة العربية التي حملت شعار الوحدة العربية القومية العروبية كانت من أكثر من ساهم في تقوية القطرية العربية ورفض أي تنازل عن السيادة الوطنية.
كل تلك المفارقات ساهمت في بناء أم المفارقات: مجتمعات بدلاً من أن تدار من خلال حقوق عامة أصبحت تدار من خلال حكم في صورة جمعية خيرية أبوية.
لن تنتهي مفارقات الحياة العربية المقلوبة إلا إذا أصبح هرم المجتمع العربي يجلس على قاعدته بدلاً من سخرية الجلوس على رأسه.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2017/05/19