الأحرار الفلسطينيون في سجون العدو يلقنون درسا لأسرى السلطة المتوهمة
إسماعيل القاسمي الحسني
نعم أيها السادة، لا ذلك من قبيل الكلام الإنشائي، و لا هو بدافع رفع الهمم و لا قطعا من زاوية التهجم و التطاول على أحد؛ حين تقف على عتبات الاستشهاد و التضحية بالروح و الحياة، في هذا المقام المقدس الطاهر، ليس لك و لا يمكنك المزايدة و لا المتاجرة، و أبعد ما يمكن و أعلى ما تقدر هو الوقوف بخشوع، و تتحرى أقصى أبعاد الموضوعية و العقلانية للتأمل و عرض الرأي، إن جاز وصفه بالرأي، ذلك أن هناك بون شاسع بين الرأي و الموقف.
اليوم يدخل أكثر من ألفي حرّ فلسطيني داخل سجون كيان العدو الإسرائيلي يومهم الأربعين، بإرادة فولاذية و هامة لا تنحني و قامة ناطحت بكرامتها السماء، هؤلاء الأحرار الذين غيّب مأساتهم الهيكل الكرتوني المسمى بهتانا جامعة الدول العربية، و أغفل حقهم معبد الدولار الذي يرفع يافطة منظمة مؤتمر دول العالم الإسلامي، و لن أتحدث طبعا عما يشار إليه كذبا و تزويرا مفضوحا هيئة الأمم المتحدة؛ أقول هؤلاء الأحرار في غيابة سجون العدو، لا يملكون صواريخا و لا قنابل فسفورية، و لا أحزمة ناسفة و لا 480 مليار دولار، لا يملكون سيارات الليموزين و لا سيوف الذهب المرصعة بالحجارة الكريمة، و لا يحسنون الرقص على طبول الجنادرية، هؤلاء الأحرار في غيابة السجون لا يعرفون السجاد الأحمر و لا هز فنجان القهوة، و لا يعرفون بأن الدين الإسلامي يجيز للمصلحة العليا مصافحة ممثلات الأفلام الإباحية؛ هؤلاء لا يملكون طائرات خاصة مجهزة بكراسي الذهب و مواسير مراحيضها من الدر و الياقوت؛ لا أقول لا يملكون فقط كل هذا و غيره، بل أقول لا يوجد في قواميسهم مثل تلكم المفردات؛ لكن هؤلاء السادة الأحرار يملكون أمرا غاليا عزيزا هو بدوره لا يوجد على ما يبدو في قواميس مقبرة جامعة الدول العربية و نظيراتها، أمرا يسمى “الكرامة و العزيمة و الصمود و التضحية و المواجهة و الإقدام”؛ هذه ليست مفردات إنشائية، هذا سلوك مجسّد على ارض الواقع يعاينه كل من له بصر أو ألقى السمع فهو شهيد.
هؤلاء الأحرار في غيابة سجن العدو، لا يملكون من حطام الدنيا شيء، لكن كل ما يملكونه هو “الروح”، و الروح هي أغلى ما يمكن أن يملكه الحي، هذا الأغلى يقدمونه تضحية منهم كرامة و شهامة و صمودا و تحديا، يفرض على كل من يملك مثقال ذرة من عقل أن ينحني له إجلالا و خشوعا. في الوقت الذي يتهافت الزعماء الصوريّون للأمة تهافت الذباب على فضلات البشر و فتات الدنيا، و كأنما لا علاقة تربطهم بهذه المأساة الإنسانية و الأخلاقية و الدينية.
و إذا كان هؤلاء الأحرار الفلسطينيون في غيابة سجون العدو قد قدموا لفلسطين شعبا و أرضا أغلى ما يملكون من زهرة العمر الى “الروح”، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة من أول يوم إعلان إضرابهم عن الطعام: أي شيء قدمته السلطة الفلسطينية لهم؟
حين يبشرنا رئيس السلطة يوم أمس بأنه دعا مبعوث الولايات المتحدة للتدخل أو مبعوث الأمم المتحدة، نسأل حتما: هل فخامة الرئيس ساعي بريد ليس أكثر؟ ثم من المسؤول الأول عن الأسرى الفلسطينيين؟ نعم الأمة العربية والإسلامية مسؤولتان، و ألف نعم كل النخب العربية و الإسلامية و الإنسانية مسؤولية على هذا الوضع، لكن المسؤول الأول بحكم الموقع و العلاقة و الصفة هي السلطة (المتوهمة) الفلسطينية.
لطالما سمعنا السيد محمود عباس يلوّح مهددا بوقف التنسيق الأمني، الوضع اليوم أخطر بكثير من الأيام التي كان يرفع فيها هذا التهديد، و السؤال قبل أن نسأل العرب و المسلمين و غيرهما: ما الذي يمنع السلطة الفلسطينية من إعلان بالصوت العالي و عمليا وقف كل اتفاقاتها مع كيان العدو؟ ليس إلى غاية تلبية مطالب الأحرار، تلكم المطالب البسيطة جدا و المشروعة، و إنما إلى أن يطلق سراحهم جميعا دون استثناء؛ أي شيء ستخسره السلطة لو اتخذت هذا القرار الوطني الحر و الإنساني الأصيل و الفرض الديني الذي لا يرقى لوجوب آدائه ذرة شك !!!
ثم أي شيء يمنع السلطة و منظمة فتح و كل أذرعها و قياداتها، و جميع الفصائل الفلسطينية التي لم نعد نحص لها عددا، من دعوة الشعب الفلسطيني كل الشعب الفلسطيني للمظاهرات داخل الأراضي المحتلة و في الخارج؟ أي شيء يمنع الشارع الفلسطيني لأن يتحرك بعشرات بل مئات ألاف الشباب دفعة واحدة؟ أي شيء يمنع؟
ختاما أقول: لقد خرج الشعب الجزائري في 1945/05/08 في مظاهرات سلمية للمطالبة بحقوقه المشروعة من الاحتلال الإجرامي المتوحش الفرنسي، و جوبه بالقتل فعلا ليقضي أكثر من خمسة و أربعين ألفا في ساعات، و أرقام تشير إلى ما يزيد عن سبعين ألف شهيد، و تم تدمير القرى و الأحياء و وثق التاريخ مجزرة مروعة يومها سبقت زمنيا بأربعة أشهر، و تجاوزت كارثة هيروشيما إجراما و بشاعة و عدد ضحايا. و لكن و هنا المهم كانت هذه الجريمة شرارة لهب أوقدت نار ثورة الشعب الجزائري، تسع سنوات كانت كافية لتكوينها في رحم وعيه، و خرجت إلى العالم بملاحم خلدها تاريخ البشرية على جبين “الحرية”. نعم التضحية كانت جسيمة لا محالة، لكن يقابلها مائة ألف نعم أن مقبلها كان نصرا عزيزا و حرية كاملة لكل الشعب الجزائري و تطهير كل شبر من أرضه.
متى تفهم السلطة الفلسطينية و النخب التي تدور في فلكها، أنه لا سبيل بالمرة و مطلقا لاستعادة الحرية إلا بالتضحية؟ ارموا الكرة للشعب الفلسطيني و ليستشهد من كتبت له الشهادة و لا يمكن إلا أن ينتهي الأمر إلى نصر مثل نصر الجزائر.
ما يقدمه الأحرار الفلسطينيون في غيابة سجون العدو من دروس التضحية و الشجاعة و الإقدام و الكرامة لأسرى السلطة الفلسطينية، لحري و جدير لأن يكون الشرارة الأولى لثورة فلسطينية لن تتوقف إلا لحظة تحرير كل فلسطين، و متى ضيع فرصتها الشعب و خاصة نخبه، فإني لا أشك بأنه سيعاني ما لم يعانيه من قبل من صور الإذلال و الهوان لسنوات أخرى الله أعلم بنهايتها.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/05/27