في الذكرى الخمسين لهزيمة 67 لماذا يصر البعض على عدم التعلم من دروسها؟!
محمد النوباني
لقد كتبت الكثير عن هزيمة الخامس من حزيران عام 1967 والتي مكنت إسرائيل من احتلال بقية أراضي فلسطين التاريخية بالإضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية بحيث يمكن القول بأن المكتبة العربية وأرشيفات الصحف تحفل بآلاف الكتب والدراسات والمقالات والأبحاث التي عالجت هذا الموضوع من جميع جوانبه
وحتى لا تكون الكتابة مكررة وممجوجة فأنه ينبغي في كل عام محاولة تسليط الأضواء على جوانب من تلك الحرب لم تحظى بالتغطية الكافية وأن أمكن الاستفادة من دروسها وعبرها لتصفية آثار تلك الكارثة التي أدخلت المنطقة في أسر الحقبة الإسرائيلية وأسست لغيرها من الهزائم التي لحقت بالفلسطينيين والعرب قبل التحول الذي طرا على المنطقة عقب هزيمة إسرائيل وخروجها صاغرة من جنوب لبنان عام 2000وهزيمتها في الحرب مع حزب الله عام 2006 وفي الحروب الثلاث التي شنتها على غزة أعوام 2008, 2012 ,2014
ولعل من المسائل التي هنالك فائدة راهنة في الحديث عنها بهذه المناسبة هو دور الولايات المتحدة الأمريكية في تضليل وخداع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر من خلال الإيحاء له بوسائل دبلوماسية خسيسة بأن إسرائيل لن تبادر بالهجوم على مصر مما مكنها من توجيه الضربة الأولى القاصمة للجيش المصري والوصول إلى قناة السويس في غضون ستة أيام , وإلحاق هزيمة قاسية بجيوش ثلاث دول عربية .
نقول ذالك لأن البعض من ظهرانينا ما زال يراهن على كل إدارة أمريكية جديدة تأتي إلى البيت الأبيض, وأخرها إدارة ترامب , رغم أن كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ مؤامرة قرار تقسيم فلسطين عام 1947 على الأقل وحتى اليوم أثبتت أنها حليفة للمشروع الصهيوني وداعمة وحامية لإسرائيل ومعادية حتى النخاع لقضايا الأمة العربية وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني بما يوقعنا في المزيد من النكبات والكوارث ويطيل أمد معاناة وتشرد شعبنا ويمكن الاحتلال من البقاء جاثما على صدورنا .
وحتى نقارب الموضوع فعندما تولى الرئيس الأمريكي الأسبق “لوندون جونسون ” الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية رمى بكل ثقل بلاده المادي والمعنوي لدعم إسرائيل وتمكينها من إلحاق الهزيمة بالعرب حيث قررفي العام 1965 بيع إسرائيل السلاح بصورة علنية وللتعمية على فعلته المنحازة لإسرائيل والمعادية للعرب بعث جونسون برسالة إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يخطره منها بأن أمريكا قررت بيع صواريخ “الهوك” للدولة العبرية لمواجهة قاذفات القنابل الروسية الصنع الموجودة لدى مصر لأنها معنية على حد تعبيره للحيلولة دون اختلال توازن القوى في المنطقة والذي يشجع على نشوب الحرب .
وحذر جونسون في رسالته المذكورة لعبد الناصر العرب من مغبة تضخيم قضية بيع الأسلحة لإسرائيل لأنهم أن فعلوا ذالك فسوف يتسببون حسب رأيه في تصعيد حدة التوتر في الشرق الوسط
وحتى تكتمل عملية الخداع فقد أعلن اسحق رابين رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك أن الجيش الإسرائيلي سوف يشن هجوما خاطفا على سوريا لاحتلال دمشق وإسقاط نظام الحكم فيها ومن ثم الانسحاب والعودة إلى المواقع الأصلية بذريعة الرد على العمليات العسكرية التي كان يشنها الفدائيون الفلسطينيون على إسرائيل انطلاقا من الحدود السورية .
كما أعلن ليفي اشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أن إسرائيل مستعدة لاستخدام القوة ضد سوريا , فما كان من مصر إلا أن ردت على ذالك التهديد الإسرائيلي بإعلان حالة الطوارىء في القوات المسلحة المصرية بهدف الضغط على إسرائيل لتهدئة الموقف على الجبهة السورية , وفي 16 أيار 1967 قرر المشير عبد الحكيم عامر وزير الحربية المصري آنذاك ممارسة المزيد من الضغط على إسرائيل , فأصدر رئيس الأركان المصري محمد فوزي أمرا لقوات الطوارىء الدولية العاملة في سيناء بإخلاء مواقعها طالبا من القوات المسلحة تنفيذ ذالك القرار .
وفي أعقاب هذا التطور كلف الرئيس جونسون سفير الولايات المتحدة لدى مصر بنقل رسالة إلى الرئيس عبد الناصر حيث جاء في الرسالة تأكيده على حسن نواياه تجاه مصر نافيا وجود اتجاهات غير ودية لديه , وأشاد جونسون برسالته بجهود عبد الناصر في مجال التنمية الاقتصادية متحدثا بعدها عن أهمية تجنب نشوب الحرب ومشددا على أن النزاعات يجب أن لا تحل بالاجتياز غير المشروع للحدود بالقوات المسلحة ومقترحا أن يقوم نائبه “هيوبرت همفري” بزيارة للشرق الأوسط لتخفيف التوتر
وذكر جونسون في رسالته أن حكومة مصر والحكومات العربية الأخرى تستطيع أن تتأكد بيقين وأن تعتمد على أن حكومة الولايات المتحدة تعارض معارضة صارمة أي عدوان في المنطقة من أي نوع , سواء أكان مكشوفا أو في الخفاء وسواءا قامت به القوات المسلحة النظامية أو قوات غير نظامية , وبأنها ستقف ضد أي طرف يبادىء بالأعمال الحربية .
ويذكر المرحوم محمود رياض الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية المصري آنذاك في مذكراته “البحث عن السلام والصراع في الشرق الأوسط ” بان تلك الرسالة الأمريكية والتعهدات الرسمية التي قدمت لمصر قد ساهمت في عملية الخداع الكبرى والتي قادت إلى الهزيمة , ويشيد رياض في مذكراته إلى أن الأمر الذي لا شك فيه أنه لولا الخداع الأمريكي لكان بمقدور عبد الناصر القيام بضربة وقائية كان من شانها أن تحول دون كارثة 1967 , لأنها كانت ستمكن سلاح الطيران المصري من تدمير جزء من سلاح الجو الإسرائيلي وستحول دون تدمير الطائرات الحربية المصرية وهي رابضة على الأرض في قواعدها صباح الخامس من حزيران .
ولم تكتفي الولايات المتحدة بالخداع والتمويه فأمرت الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط بالاستعداد لمواجهة أي موقف عسكري , فتوجهت قطع منه إلى شرق البحر المتوسط ثم أرسلت الباخرة الأمريكية “ليبرتي ” للتجسس على التحركات والاتصالات المصرية في سيناء , وهي الباخرة التي اكتشف أمرها فجأة أثناء الحرب حينما أغارت الطائرات الإسرائيلية عليها بطريق الخطأ ,
وعندما بدأت العمليات الحربية من جانب إسرائيل التي اعتدت على ثلاث دول عربية قال “دين راسك ” وزير الخارجية الأمريكية آنذاك بأنه لا يعرف من هو الطرف الذي بدا بالحرب
ومن نافلة القول أن كلام “راسك ” لم يكن صحيحا لأنه لو افترضنا جدلا بأن أمريكا لم تكن على علم مسبق بساعة الصفر فأن الأقمار الصناعية الأمريكية لأغراض التجسس كان تعرف على وجه القطع من هو الطرف الذي بدا الحرب .
وقد كشفت العديد من المصادر عن أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لعبت دورا مهما في اتخاذ قرار الحرب حيث أكدت لجونسون أنه لا توجد خطة أو استعدادات في مصر للهجوم على إسرائيل , إلا أنها أكدت أيضا أن القوات الإسرائيلية بوسعها كسب الحرب
وقد علم أبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك براي المخابرات الأمريكية عند زيارته للبنتاغون يوم 26/5/1967 في حين ذكره جونسون لدى اجتماعه به بجملته المشهورة التي تطرح بوضوح استعداد أمريكا لمساندة إسرائيل في الحرب القادمة – أن إسرائيل لن تكون وحدها إلا إذا قررت هي أن تعمل بمفردها .
وعندما أبلغ السوفيات إدارة جونسون أن إسرائيل تعد العدة للهجوم على مصر اكتفت تلك الإدارة بإرسال المعلومات إلى ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذالك الوقت دون أن تتخذ أي إجراء لمنع العدوان وبعد نشوب الحرب وتحديدا في اليوم الثاني “6حزيران ” عندما بادرت كل من فرنسا والهند إلى تقديم مشروع قرار مجلس الأمن يطالبون فيه بوقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى خطوط الرابع من حزيران 1967 ظلت أمريكا لوحدها تصر على عدم الإشارة إلى الانسحاب مستخدمة في ذالك كل وسائل الضغط والتعويق والمناورة مما مكن إسرائيل من مواصلة احتلال المزيد من الأرض .
وتذكر المصادر أنه بتاريخ 18-7-1967 توصل المندوب الأمريكي في الأمم المتحدة ” إرثر جولدبرج” مع السفير الروسي “دوبرينين” إلى مشروع قرار يقدم للأمم المتحدة وينص على مبدأ عدم جواز احتلال أراضي الغير بواسطة الحرب طبقا لميثاق الأمم المتحدة , ويطلب من إسرائيل القيام بدون تأخير بسحب قواتها من الأراضي التي تم احتلالها , في حرب حزيران إلا أن الولايات المتحدة سحبت موافقتها على مشروع القرار بعد أقل من 48 ساعة من الاتفاق عليه مع السوفيات ,
ولعل قلة منا يعرفون أن إشكالية ال التعريف المتعمدة الواردة في القرار 242 الصادر في 22-11-1967 والتي استند إليها لدى صياغة وطرح العديد من مشاريع الحلول السياسية التصفوية الخاصة بالقضية الفلسطينية كان مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية والهدف منها مساعدة إسرائيل للاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها في عدوان حزيران .
فالقرار 242 هو عبارة عن توليف بين مشروعي قرارين قدما لمجلس الأمن هما مشروع أمريكي وأخر بريطاني مشروع الأمريكي من أصل يهودي ارثر جولدبرغ سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في ذالك الوقت والمشروع البريطاني الذي أعده وزير خارجية بريطانيا جورج براون وقدمه مندوب المملكة المتحدة لدى الأمم المتحدة اللورد كارادون الذي شغل منصب حاكم اللواء الشمالي في فلسطين أثناء ثورة 1936-1939 والمسؤول عن سفك دماء الكثير من الفلسطينيين الأبرياء
فقد تعمد ارثر جولدبرج في المشروع الذي تم دمجه مع المشروع البريطاني القول بان مجلس الأمن الدولي يؤكد بأن تحقيق حالة من السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط تشمل انسحاب قوات مسلحة من أراضي محتلة .
وقد ثبت هذا الغموض المتعمد في النص الخاص بالانسحاب من نص القرار 242 حيث وردت عبارة انسحاب القوات الإسرائيلية من أراض احتلتها في النزاع الأخير حسب النص الانجليزي , بينما وردت العبارة مضاف إليها ال التعريف لتصبح في النصوص الرسمية الأربع الأخرى ( الروسية , الفرنسية , الاسبانية , والصينية ) الانسحاب من الأراضي التي احتلت في النزاع الأخير .
واليوم وبعد انقضاء قرابة ال نصف قرن على صدور القرار 242 يتضح لنا بجلاء أن اللذين صاغوا ذالك القرار لم يكونوا يلعبون وإنما يمكنون إسرائيل من الالتفاف على القرار المذكور والاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري المحتل بعد أن أدعت بأنها نفذت القرار عندما انسحبت من سيناء المصرية بكلمات أخرى فأن من صاغ القرار242 أراد وضع أي مفاوضات سلام مستقبلية مع العرب , وهو ما سمي لاحقا بالمسيرة السلمية بكاملها تحت رحمة التفسير الإسرائيلي للنصوص لتدخل العملية التفاوضية بعدها ليس في تطبيق حلول سياسية وإنما في عملية تفاوض على معاني كلمات ونصوص مبهمة وتفاصيل مملة لكي تستمر العملية إلى ما لا نهاية ويبقى السلام بعيد المنال
استنادا إلى كل ما تقدم فأن الاستفادة من دروس وعبر حرب الخامس من حزيران عام 1967 تعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية لا زالت كما كانت قبيل وأثناء وبعد تلك الحرب سندا وداعما وحليفا استراتيجيا لإسرائيل وفوق كل ذالك شريكا دائما لها في كل عدوان تشنه على الفلسطينيين والعرب.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/06/09