لكي تبقى لغتنا الجميلة على قيد الحياة
قاسم حسين
سنحتفل غداً الجمعة (18 ديسمبر/ كانون الأول) مع الأمم المتحدة باليوم العالمي للغة العربية، ولا أدري هل هناك احتفالات دولية باللغات الأخرى أم لا، إلا أن لغتنا الجميلة تستحق هذا الاحتفال والاحتفاء.
تستحق لغتنا مثل هذا الاحتفال؛ لأنها كانت وعاءً حفظ ثقافتنا الإسلامية، ونقل الكثير من الثقافات الأخرى وحفظها عبر القرون؛ ولأنها ثانياً لغةٌ حيةٌ ولكنها باتت في خطر، لأن أهلها ما عادوا يقدّرونها حق قدرها، أو يحرصون على بقائها؛ وثالثاً بسبب الزحف التقني اليومي الكاسح، بما يزدحم به من مخترعات ومكتشفات ومصطلحات، في مختلف الفنون والعلوم.
اللغات الأخرى، حتى تلك التي لا يتجاوز تعداد الناطقين بها بضعة ملايين، تُدرّس في المدارس والجامعات، وتتفاعل مع الإعلام والحياة، أما لغتنا فأصبحت من اللغات المهدّدة في بقائها ووجودها، حيث أصبحنا نعيش «مأزق هوية» حتى في التعليم الجامعي، بما أسماه بعض الباحثين بـ«الهجرة نحو الانجليزية».
هذه الإشكالية ليست وليدة السنوات الأخيرة، بل تعود لأكثر من قرن، وكلنا يتذكر ما كان يردّ به الشاعر حافظ إبراهيم بدايات القرن الماضي متغنياً بجمال اللغة العربية ودررها الكامنة وجواهرها. لكن مثل هذا الطرح العاطفي لم يعد مجدياً في هذا الزمان، فهناك لغة جميلة تتنحى وتخلي مكانها في أراضيها، لصالح اللغات الأجنبية الزاحفة.
في بعض المنتديات الثقافية يوضع اللوم على مجمعات اللغة العربية، سواءً في مصر أو سورية والعراق، ولكن هذه المجمعات جزءٌ من المشكلة، بحكم تركيبتها من علماء أفاضل، أغلبهم تجاوز سن التقاعد، ولا يمكن إنقاذ العربية اعتماداً على مجهوداتهم وأغلبهم يعيش خارج العصر.
قضية إنقاذ اللغة تتطلب أن يهتم كل كاتب بتجويد لغته؛ وأن يلتزم كل صحافي بالحد الأدنى من القواعد النحوية؛ وأن تلتزم الإذاعات والقنوات التلفزيونية باختيار مذيعين ومذيعات، ليس اعتماداً فقط على حسن الهندام وجمال الوجه وطبقات الكحل والمكياج، بل يحسنون الحديث بالعربية السليمة، ولا تغلب عاميّتُهم الفصحى، من أجل أن تألف عيون القراء وآذان المستمعين، الموسيقى الكامنة في هذه اللغة البالغة الجمال.
إن السبب الرئيسي الذي يقف وراء غربة اللغة العربية في أوطانها، إلى جانب القرار السياسي غير الجاد في اعتماد التعريب، هو طرق التعليم المتخلّفة التي مازلنا نتبعها في تعليم قواعد اللغة. لغتنا ليست سيئة، ولكن مناهجنا ومدارسنا ومسئولي التعليم في بلداننا، هم السبب الأول والأخير وراء استمرار تدهور لغتنا وتراجعها، حتى باتت بحاجةٍ إلى «يوم عالمي» لتذكيرنا بخطايانا تجاهها.
لغتنا ليست سيئة يقيناً، ولكننا نحن السيئون المتخلّفون، لأننا فشلنا في تقديم قواعدها للناشئة، وتبسيطها لطلاب المدارس في قالب هندسي مشوق. لقد أبقينا على تدريس اللغة بحسب مناهج أكل الدهر عليها وشرب، ومازلنا نتمسك في القرن الحادي والعشرين بتعليم كتاب «قطر الندى وبل الصدى»، لابن هشام رحمه الله (ت 1360م)، الذي اجتهد في جمع أبواب النحو، وتعلم عليه الآلاف في زمن كان الطالب يذاكر دروسه على ضوء الشموع، ولكنه لم يعد مناسباً لهذا الزمان. لقد قطع العالم مسيرة العلم نحو تفجير الذرة، ومازلنا نتمسّك بقواعد النحو البدائية وأرجوزاتها التي وُضعت قبل 600 عام.
حين انتقلنا من الثانوية نهاية السبعينيات إلى الدراسة الجامعية التي تعتمد كلياً على الانجليزية، كانت بعض الحصص تعرض مسلسلات تعليمية مشوّقة، تسهل عليك تعلم اللغة وهضم قواعدها. وفي نهاية الثمانينيات كنت شاهداً على تجربة بعض الزملاء في تعلّم لغات أخرى كالفرنسية والألمانية، ولاحظت كيف كانت كتب الدراسة جميلة مشوقة، تستخدم الصور والألوان والكاريكاتير والرسوم.
إذا أردنا أن نحافظ على استمرار لغتنا الجميلة في الحياة، فلنبدأ بتسهيل تعليم القواعد وتصحيح طرق التعليم التي تجمدنا عندها منذ 1200 عام.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2015/12/17