معركة جرود عرسال: معركة المفاجآت والذهول والصدمة
العميد د. أمين محمد حطيط
لم يكن أحد من الخبراء ومحترفي شؤون القتال والميدان يتوقع أو يتصوّر أن تنتهي معركة تطهير 300 كلم2 يحتلها 1000 مسلّح شديدو المراس وعميقو التحصّن في الأرض بمثل هذه السرعة وبتلك السلاسة غير المسبوقة تقريباً في تاريخ النزاعات المسلحة والتاريخ العسكري بوجه عام.
ففي جرود عرسال تحصّنت جبهة النصرة لـ 5 سنين ونيّف واستفادت من طبيعتها الجغرافية، من كهوفها ومغاورها وأوديتها وقممها. والأهم من وعورتها التي تمنع أي مهاجم من أن يصل إلى مأربه إلا بعد بذل الكثير الكثير من التضحيات وتحمّل الكم الهائل من الخسائر، ولذلك كانت جبهة النصرة في حالة طمأنينة أن أحداً من خصومها أو أعدائها لن يجرؤ على مهاجمتها، لأنها في الموقع الراجح من كل الجوانب، بخاصة أنها تستفيد من غطاء داخلي لبناني يشكله لها تيار المستقبل وآخرون في «الدول اللبنانية» من رسميين يتولّون مسؤوليات أو خارج المؤسسات الدستورية اللبنانية يديرون كيانات اجتماعية ودينية أو سياسية. وفوق كل ذلك كانت مطمئنة إلى الدعم «الإسرائيلي» الذي يتدخل لصالحها من الجولان إلى عرسال في كل مرة تشعر فيه بضيق أو حرج عملاني.
لهذا كله، فإن جبهة النصرة ومَن خلفُها من لبنانيين وإقليميين ودوليين، لم يأخذوا على محمل الجد كلام السيد حسن نصر الله، حين قال بوجوب خروج الإرهابيين من جرود عرسال وأن على جبهة النصرة أن تستفيد من الوقت المتاح للتفاوض للخروج سلماً، وإلا فإنه لن يتحدّث في الموضوع مرة أخرى وما أوحى إليه بأن قرار إخراجهم اتخذ وبشكل ولا رجعة عنه سلماً أو حرباً.
ففي المفاوضات طرحت جبهة النصرة شروطاً تعجيزية تعلم هي قبل غيرها بأنها ستُرفض، ولكنها طرحتها لأنها تريد أن تبقى مطمئنة إلى أن أحداً لا يستطيع إخراجها بالقوة، ولكن حسابات النصرة ومن معها وخلفها في الداخل اللبناني وفي الخارج أخطأت التقدير وحصلت المفاجأة التي أحدثت زلزلاً لدى الجميع، مفاجأة صنعها حزب الله وتوالدت منها مفاجآت على أكثر من صعيد أدخلت الجميع في حالة من الذهول إلى حد أن البعض فقد التوازن أو فقد حتى القدرة على فهم الأمور وتحليلها. وجعل الصديق والعدو يرسل أقماره الاصطناعية التي احتشدت فوق سماء عرسال تراقب، تصوّر، تتسقّط الأخبار لتقف على حقيقة ما يجري للعبرة والاستعبار وللدرس والاستثمار، كما ولم يهمل مراقبة الداخل اللبناني الذي وصلت إليه مفاعيل توليد المفاجآت السياسية والوطنية والإعلامية و..و …الخ. وهنا نذكر بعض ما سجل في الميدان وخارجه كالتالي:
على صعيد توقيت العملية وساعة الصفر، نجح حزب الله ومنظّروه في إخفاء التوقيت وادخلوا الجماعات الإرهابية وحاضنيهم في حالة ضبابية لا يستطيعون معرفة متى تنطلق العملية حتى أن الاستعانة بالأعلام وعبر منهجية الاستعلام بالإعلام لم تنجح في كشف التوقيت وما إن سقطت القذيفة الأولى في سياق النار التمهيدية حتى سقطت كل التوقعات السابقة حول ساعة الصفر وحده الجيش اللبناني لم يفاجَأ وكان قد حجز قواته قبل 24 ساعة من العملية، لأنه شريك فيها، رغم أنف المنكرين.
على صعيد طبيعة المناورة. اعتمدت المقاومة مناورة مبتكرة معقدة، خلافاً لما توقعت جبهة النصرة التي أعدت نفسها لنمط دفاع فوجدت نفسها أمام عملية من طبيعة أخرى حيث استطاعت المقاومة أن تهاجم وتخترق بسرعة على محاور ثلاثة من المقتربات المتاحة من الشرق والجنوب وأن تتعامل مع قيود قائمة من الغرب والشمال ثم تندفع في عملية اختراق رشيقة نحو 9 نقاط حاكمة رئيسية أدى الإمساك بها والسيطرة عليها في ست ساعات فقط إلى السيطرة النارية والميدانية على نصف المنطقة التي تسيطر عليها جبهة النصرة، ما قاد هذه الجبهة الإرهابية إلى حال من الانهيار المعنوي والإرباك العملاني الميداني أفقدها توازنها وحرمها من الاستفادة من كل ما كانت حضرته للمواجهة العسكرية الدفاعية المضمونة النتائج بظنهم.
على صعيد قواعد العمل في الميدان واحترام القانون الدولي الإنساني وقواعد الحرب. كان لافتاً حتى وكان صاعقاً لدى البعض مدى تقيد رجال المقاومة بقواعد القانون الدولي الإنساني والإسلامي حيث امتنعوا عن القيام بأي عمل من شأنه إلحاق الأذى بالمدنيين، رغم ضرورته العسكرية، كما أنهم وبعدما بلغوا حال الطمأنينة في إنجاز المهمة والسيطرة على المنطقة منحوا المسلحين فرصة للخروج من الميدان مع ضمان سلامتهم وأخيراً كيف أنهم امتنعوا عن قصف منطقة الملاهي ووادي حميد حيث لجأ إليها من تبقى من فلول المسلحين واختلطوا ببعض المدنيين هناك، فحاصرتهم المقاومة ولم ترهق المدنيين بنار.
على صعيد ردّة الفعل الوطنية اللبنانية. هنا نقطة سيكون التوقف عندها طويلاً عندما سيُكتب تاريخ هذه المعركة، فقد استطاعت المقاومة أن تنتج بيئة من الوحدة الوطنية حولها غابت عن المشهد اللبناني منذ أكثر من 17 عاماً، وكان مهماً جداً في لبنان أن ترى أشخاصاً من مختلف المناطق والطوائف يذهبون إلى المستشفيات للتبرّع بالدم لجرحى المقاومة، وكانت مهمة تلك الهبّة الإعلامية الوطنية التي ساهم فيها إعلام ورموز في السياسة والفكر والثقافة والإعلام اللبناني تمجّد المقاومة وتؤازرها وتثني على تضحيتها شكراً وعرفاناً.
لقد خاضت المقاومة معركة التحرير في الجرود فأنتجت تظاهرة توحيد وطني في المدن والبلدات اللبنانية ولم يبقَ خارج مواكب التأييد للمقاومة إلا جهة سياسية واحدة مرتهنة في نشأتها ومسارها للخارج ويحفل تاريخها في نهب لبنان وإفقاره والتسكّع على أبواب حكام أجانب لا يبتغون إلا الشر بلبنان خدمة لـ«إسرائيل»، حيث رأينا أن مَن بكَ منهم على قتلى «إسرائيل» في العام 2006 بكَ على قتلى الإرهابيين في العام 2017.
على الصعيد الخارجي العام. تابع الخارج معركة عرسال باهتمام كبير حتى أن الإعلام الغربي ذكر أن سماء عرسال ازدحمت بالأقمار الاصطناعية التي تسجل وتنقل كيف يقود حزب الله معركته وكيف يُتقن العمل والتنسيق الرائع مع جيشين تقليديين في الآن نفسه الجيش العربي السوري شرقاً والجش اللبناني غرباً، وكيف يمارس عملية التنسيق بين الأسلحة المشاركة في العملية من دون أن يسجل خطأ ميدانياً واحداً مهما كان طفيفاً. كيف يتقدّم، كيف يخترق، كيف يُمسك بالنقاط الحاكمة كيف… وكيف… وكيف ينتصر ويحقق الإنجاز العسكري في مهلة قياسية تفوق التوقع. وهنا نجد أن «إسرائيل» كانت الأكثر اهتماماً بتتبّع ما يجري، لأنها تعرف أن كل ما يحصّله الحزب ومقاتلوه من خبرات سيستعمل يوماً ضدها في المواجهة التي لا بدّ آتية في يوم ما.
جريدة البناء
أضيف بتاريخ :2017/07/27