الأنا الأميركية العظمى: بين الذاتي والموضوعي؟!
علي الدربولي
أميركا دولة عظمى، لا شك في ذلك…السؤال:
من أين أتت هذه العظمة؟:
أصل الشعب الأميركي من الأوروبيين البيض المهاجرين، والمغامرين الذين تمردوا على الكنيسة الكاثوليكية، وهم من البروتستانت الذين يشكلون ما نسبته حوالي 52% من عدد السكان، وبشكل عام يشكل المسيحيون ما نسبته حوالي 225 مليون نسمة من عدد السكان. إذن نستخلص، وبرغم علمانية وديموقراطية النظام السياسي أن:
– الأغلبية مسيحية تطغى عليها روح المغامرة الأولى…
– منفتحة على المعتقدات الأخرى من دينية وغيرها.
– تحتكم إلى مبدأ” ألا تطغى السلطة على الدين” وهذا حاصل منطقي للفكر غير الديني الذي ساد في أوروبا بدءا من عصر التنوير…بعد الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت. فترسخ إثر ذلك في أوروبا مبدأ عدم طغيان” الدين على السلطة”.
مم تتشكل روح السلطة في أميركا؟
– القوة بكل أبعادها ووسائل تظهيرها على أرض الواقع فيما يخدم مصالح الطبقة الحاكمة، من أي حزب سياسي كانت.
– المال: بحيث يكون دائما في نهاية الطريق الذي يستوعب الحراك الاجتماعي الاقتصادي ومن ثم السياسي-العسكري.
الخلفية:
المهاجر الأوروبي إلى الأرض الجديدة (أميركا الهنود الحمر) حمل في نفسه إليها رد فعل لم يستطع تفريغه في وجه الذين امتلكوا زمام السلطة العلماني في أوروبا، فراح ينفس هذا الاحتقان من خلال أمرين:
– طرد السكان الأصليين والاستيلاء على أرضهم
– قتل من يقاوم منهم، والإمعان في ذلك حتى أضحى الأمر على شكل إبادة، بهدف تفريغ الأرض من سكانها واحتلالها من قبل من وصل، ومن قبل من استدعي من أوروبا إلى الأرض الجديدة فوصل.
مرحلة الاستقلال:
بعد مرور أكثر من عام على اندلاع حرب الاستقلال الأمريكية ضد المستعمر البريطاني، أعلن الكونغرس ميلاد “الولايات المتحدة الأميركية” في الرابع من تموز من عام 1776م . وأهم ما جاء في هذا الإعلان: ونحن نرى أن هذه الحقائق بديهية، ” إن جميع البشر خلقوا متساوين، وأنهم وهبوا من خالقهم حقوق غير قابلة للتصرف، وأن من بين هذه الحقوق حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة.” العبارة التي اشتهرت كثيرا في اللغة الإنجليزية، إلا أن ما يلفت النظر من الناحية الفلسفية، وحتى العقيدية هو القول:
” والسعي وراء السعادة”
هي عبارة مطاطة في الفكر الديني وفي الفكر الوضعي على حد سواء، وهي غامضة بنفس الوقت/ من حيث عدم تبيان المقصود بها، أهي النخبة أم عموم الشعب، أم كل هؤلاء إضافة إلى عموم الناس فوق سطح الأرض؟!. إن الذي يتسيد نظريات السيطرة على العالم من قبل أميركا القوية والغنية، هو تلك الروح الإعلامية التي تحاول إبراز المسحة الرسولية التي أراد أن يثبتها الرواد الأوروبيين، الأميركيين تاليا، في دستور الولايات المتحدة الأميركية، فيكون الأميركي نبيا بتكليف من نفسه، يريد أن يحقق السعادة بشتى الوسائل للشعب الأميركي أولا ولكل شعوب العالم ثانيا، وهو نفس الشخص الذي كان قد سلب سعادة، بل أرواح، الهنود الحمر، واحتل أرضهم وجعلهم في آخر المطاف عبارة عن جماعة تعيش في محمية “سياحية” ملحقة في إحدى ولاياته، يسمح للسائح الأجنبي بالدخول والتفرج ، وكأنهم أناس يعيشون خارج التاريخ في متحف طبيعي؟!
*بعد الاستقلال أصبح الأميركي غنيا وقويا، فالأرض بكر، وهو يتمتع بعقل علمي ومغامر، وخبرات عالية جلبها معه من موطنه الأصلي في أوروبا. إلى أن أتته الفرص المتلاحقة التي عززت قوته وثراءه، بمناسبة الحربين العالميتين الأولى والثانية، فكان استخدامه للقنبلة الذرية في اليابان تعبيرا عن قوته، وكان مشروع “مارشال” الذي سد به جوع أوروبا تعبيرا عن ثروته، ثم تمددت سطوته… فمن يسيطر على أوروبا التي كانت تحكم العالم، يستطيع أن يبسط نفوذه على معظم أرجائه.
حتى هذا التاريخ كانت نقاط قوته وثروته ذاتية إلى حد كبير، ولكن اتساع مسؤليات الأميركي التي كلف نفسه بها عبر دستوره، جعلت قواه الذاتية أعجز، بشرا ومالا، وأدوات، من أن تتحمل وزر تلك المهمة الصعبة التي لخصتها عبارة “السعي نحو السعادة” المثبتة في إعلان استقلاله. فكان الانتقال إلى مرحلة القوة الموضوعية عبر ما يلي:
– التحالفات الدولية
– بسط سيطرته على مناطق الثروات المستجدة في العالم من نفط وغيره
– وراثة المناطق الحيوية عن الاستعمار الأوروبي
– الإصرار على رأسمالية الدولة، ومبدأ الاقتصاد الحر الذي يدغدغ أحلام الناس أينما كانوا…
– فتح الحدود أمام هجرة العقول من كافة أنحاء العالم، وتأمين مستلزمات البحوث والتجارب العلمية، على قاعدة الاستثمار في كل شيء، بغية تأمين الرفاه المقصود للنخبة الرأسمالية الحاكمة قبل أي مواطن آخر، يعيش على الأرض الأميركية، وذريعة التعمية لديه، هي: أنك كمواطن أميركي حر في القول والعمل فاسع جهدك، وحقق ثروتك بنفسك، وآمن بالرب الذ تؤمن به…
– تطوير وسائل وأدوات السيطرة على الآخر وعبره (موضوعيا) عندما يتم تسخير العلم وصناعة السلاح، والتحكم بالإنتاج العالمي من زراعة وصناعة أدوية، عبر تطوير وسائل الاستثمار، والتحول إلى مرجعية دولية، عبر فرض الدولار كعملة مرجعية أولى في العالم بديلا عن الذهب. ولتثبيت هذا النهج، كان اعتماد النزاعات لا الصداقات كوسائل تقرب القوى الدولية والإقليمية من أميركا..وربط أمن كثير من الأنظمة السياسية في العالم بأمنها، فيتسع مفهوم الأمن القومي لديها ليشمل العالم بأسره. لا تشكل المسافات الشاسعة التي تفصل أميركا عن بقية العالم فرقا في هذا السياق.
– خلق البدائل المقاتلة بدلا من توريط الجيش الأميركي بعد تجارب مريرة خاضها هذا الجيش في “فييتنام” وغيرها، فكانت المنظمات(الجهادية) في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت منظمة “بلاك ووتر” الارتزاقية، وكانت التنظيمات الإسلامية المتطرفة، صناعتها في الشرق الأوسط. تحت مسميات وشعارات دينية، استغلت أبشع استغلال من الأنظمة السياسية ذات المصلحة، بغض النظر الإعلامي عن الوحشية التي اتسمت بها تلك التنظيمات، والتي لا يوافق عليها أصلا، الدستور الأميركي، لتصبح سعادة الناس في المنطقة العربية، وأولهم ناس فلسطين، أثرا بعد عين، أمام المصالح الأميركية، ومقوماتها من المتمركزة في (إسرائيل) وفي عقول حكام الأنظمة السياسية لبعض الدول العربية المتحالفة معها.
*تعرضت أميركا لهزات اقتصادية كبرى، كانت آخرها أزمة العقارات، الأمر الذي كشف الغطاء عن حقيقة الضمير الأميركي تجاه شعوب العالم، إلى أن أتى الرئيس الحالي “دونالد ترامب” ليشكل فرقا، من حيث التعاطي مع الحلفاء الأغنياء، خصوصا العرب، من الذين يتفيؤون بالمظلة الأمنية الأميركية، فيفرض عليهم من بعيد الأتاوات وثمن الحماية، ومن قريب يوقع عقودا تغطي المبالغ المطلوبة ثمنا لتلك الحماية…
*هكذا..تبقى أميركا قوية وثرية، وهي إن فقدت أحد هذين الركنين ستنهار. القوة الندية لها تتشكل عبر روسيا الاتحادية ومجموعة دول “بريكس″ كما أننا نجد صوتا مختلفا في أوروبا، عندما ترفض ثلاث دول أوروبية قائدة رؤية الرئيس الأميركي “ترامب” بخصوص الاتفاق النووي مع إيران…يتبقى، وهو الأهم:
* أن تكره الشعوب أميركا،لا مزاجا أو طوباوية، بل من خلال الأحداث التي تؤكد يوما بعد يوم على نهجها الظالم ضد المستضعفين في الأرض، والتنكيل بهم عبر أدواتها من حكام وتنظيمات إرهابية. نحن في دنيا العرب لدينا أقوى الأسباب لنكرهها كشعوب، هو ظلمها التاريخي للفلسطينيين عبر وقوفها مع إرهاب الدولة الإسرائيلية، ووقوفها، عبر انسحابها من منظمة اليونيسكو، مع إسرائيل ضد أصل ثقافي، زماني ومكاني، لا يمكن فصله عن العقيدة في فلسطين، ولا حق لـ(إسرائيل) فيه كمثل بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة. ورعايتها لكل الأعمال التدميرية والوحشية التي عصفت في دنيا العرب وهجرت الشعوب وفرقت الأسر، في ظل (الربيع الأمر العربي) وزيادة على ذلك راحت تنشئ قواعد عسكرية جديدة لها في المنطقة ، وتشجع شرائح اجتماعية على الانفصال عن الدولة التي عاشت في ظلها تاريخا طويلا، على أساس قومي، كما هي حال الأكراد في العراق وسورية…
*معادلة قد تكون نسبة صحتها عالية:
عندما تحب الشعوب العربية حكامها طوعا، ستكره هذه الشعوب أميركا الظالمة وأتباعها حكما، ولا توفر بالتالي جهدا في الانخراط في صفوف مقاومة تواجدها عبر (إسرائيل) فوق أي أرض عربية.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/10/18