نكبة أبناء سعود
عامر محسن
لبنان والحكومة ومصير سعد الحريري كلّها «تفاصيل» أمام الصورة الجديدة التي ترتسم في السّعوديّة. أحداث الأيّام الماضية كانت عتبةً من النّوع الذي لا يكون ما قبله كالذي بعده. تُذكّر الأجواء في الرياض بما كان يجري في العراق في السبعينيات، حين تقوم حملة تطهيرٍ أو محاولة انقلاب، فيتمّ اعتقال شخصيات مهمّة ونافذة ويختفي فجأةً النّاس من حولك، ويعيش الباقون في خوفٍ وترقّب.
على أنّ السّعوديّة ليست العراق البعثي ولا هي الصّين، والاعتقالات لا تطال مجرّد موظّفين وحزبيّين، بل أمراء من أبناء العائلة، ورجال أعمال دوليين، وشخصيات كان لها نفوذٌ وسطوة في الدولة السعوديّة (وهذه مملكة كان الأمير فيها في الماضي، لو كان مهمّاً كفاية، يقدر على الانشقاق وترك البلد ولا تتمّ ملاحقته ولا تصادر أملاكه؛ وقد أدّى مقتل أميرٍ على يد السلطات ــــ عن غير قصد ــــ الى اغتيال ملكٍ سعوديّ عام 1975).
الموضوع اللبناني، اذاً، ثانويٌّ أمام المخاض الذي يحدث في الرّياض، والسياسة اللبنانية ومواقف آل الحريري و14 آذار، في نهاية الأمر، ستحدّدها «المملكة الجديدة» التي سنتعامل معها قريباً. من هنا، يصعب أن نحدّد من موقعنا اليوم ما إن كان صراع الأمراء الذي يجري علناً هو «شيءٌ قديم»، له علاقة بطبائع الممالك التاريخية وفنون الجباية، أم هو مؤشّرٌ على نظامٍ جديد، وترتيبٍ قادمٍ للحلف الأمريكي في المنطقة، ونموذج سلطوي سعودي للقرن الواحد والعشرين. مهما كان، فإنّ هذه العمليّة قد خلّفت ضحايا أكثرهم، على طريقة الوليد بن طلال، لم يتوقّعوا الضربة ولم يتخيّلوا أن يجدوا أنفسهم في هذا المكان: أن تعيش حياتك أميراً وحاكماً وابن ملكٍ فوق القانون، ولديك جيشٌ خاصٌّ بك، فتجد نفسك فجأةً قيد الاعتقال والمصادرة ــــ والسجّان هو ابن عمّك.
عن خنق الأخوة وسجن الأقارب
أن تضع بعض أفراد أسرتك في السّجن قد يكون حلم الكثيرين منّا ولكن، في التّاريخ السياسي، توجد مسبّباتٌ حقيقيّة ـــ وبالغة الوجاهة ـــ للصراع بين الأقارب والأخوة، وصولاً الى القتل. حين تقرأ تاريخ الدولة العثمانية مع خليل اينالجيك (عميد الدراسات العثمانية في تركيا، ولا يمكنك أن تحصل على «فهم مركزيّ» لصعود السلطنة وسقوطها من دون أدبيات اينالجيك في التأريخ السياسي، وأعمال شوكت باموك عن التاريخ الاقتصادي للامبراطورية) تفهم لماذا كان سلاطين بني عثمان يقتلون اخوتهم أو يسملون عيونهم ما أن يتولّوا المنصب.
لا أقول إنّي أوافق على هذه العادة، ولكنك تفهم العقلانيّة والضرورة الكامنة خلفها. اغتيال الأخ في السلالات التركيّة، على عكس ما أوحته لنا روايات أمين معلوف، ليس عادةً «قديمة» استجلبها هؤلاء الحكام من مواطنهم الأصلية في وسط آسيا، ولا هي ثقافة «عنيفة» متوارثة اعتاد فيها الأخوة على المبارزة بالخناجر لدى أيّ اختلاف. في الحقيقة، فإنّ هذه «المؤسسة» قد ظهرت اثر تجربة مريرة، ومراحل انقسامٍ كادت أن تدفن حلم أبناء عثمان، وكلّ ذلك بسبب تعدّد الورثة.
حين هزم بيازيد الأوّل أمام التيموريّين وتمّ تقسيم الدولة العثمانية الأولى الى إماراتٍ توزّعها أولاده، استغرق الأمر عقوداً وحروباً أهلية عنيفة لإنجاز إعادة التّوحيد (على الهامش: لمن لا يزال حانقاً على العهد العثماني ويتخيّل تواريخ موازية من دون «احتلالٍ تركيّ» لبلادنا؛ في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ المنطقة، في القرن الثالث عشر والرابع عشر، كانت ثلاث سلالاتٍ مقاتلة تتنافس على السيادة: العثمانيون في غرب الأناضول وروميليا، أبناء تيمورلنك في شرق الأناضول وصولاً الى ايران، والمماليك في مصر والشّام. بمعنى آخر، كيفما سار التّاريخ، كان سيحكمك أتراك).
وبعد توحيد الدولة العثمانية من جديد استمرّت القلاقل والصراعات الداخلية لعدّة أجيال، بسبب مشكلة «الأخ المتمرّد» الذي ينازع السلطان على الشّرعيّة. حتّى نفهم مقدار العداوة التي كانت تتخلّل هذه الصراعات، يكفي أن نشير إلى أنّه حين دخل محمّد الفاتح القسطنطينية (وكان الفتح حدثاً مشهوداً وتاريخيّاً في وقته، واعتبره المسلمون تحقيقاً لنبوءة ووعدٍ إلهي، كأنك فتحت روما)، كان قريبه أورهان ــ أحد أحفاد بيازيد ــ هو من آخر المدافعين الذين ظلّوا على الأسوار، فيما الجيش العثماني يقتحم العاصمة. تخيّلوا، بعد أن فرّ المرتزقة الإيطاليون، وهرب معهم أكثر الجيش البيزنطي، ظلّ أورهان صامداً في عداوته لمحمّد، حتّى وهو يحقّق حلم جدّهم وأمّة المسلمين.
كان الإيطاليّون، حين يحاصرهم بيازيد الثاني في رودس، مثلاً، يهددونه بأنهم سيطلقون أخاه جم ما كان يعني ــ ببساطة ــ اشتعال حربٍ أهلية في موطنه. أصبح الهنغاريون والصرب «يتبنّون» الأمير الثائر ويدعمونه ضدّ السّلطان، تماماً كما كان العثمانيون يفعلون معهم في السّابق، ولم تكن هناك من وسيلة لتلافي الأمر. في دار الإسلام، لا وجود لفكرة الحقّ الإلهي أو تعيين ولي عهدٍ أو أحقية الابن البكر. كمٌّ هائل من التقاليد في أوروبا وجد ليضمن الاستقرار في التوريث ويسبغ عليه صفةً دينيّة، بمعنى أن ولي العهد يملك ــــ بسبب الدم والترتيب والتقاليد ــــ شرعيّة إلهية لا يحقّ لأحدٍ تحدّيها.
وفي أكثر من بلاطٍ أوروبي كان الملك والملكة، بعد زفافهما، يجبران على «إنفاذ الزواج» أمام نخبة من رجال البلاط والأعيان، ويتكرّر ذلك حتّى يحصل الحمل، فيكون المولود الذكر شرعيٌّ بشهادة الشهود، ولا يحقّ لأحدٍ ــــ في يومٍ من الأيّام ــــ أن ينازعه عرشه. في الدول الإسلامية بالمقارنة، وخاصة في البلاط العثماني، لا شيء يضمن من سيحكم بعد موت السّلطان. قد يوصي الأب في حياته لأحد ابنائه، ولكن كثيراً ما كان يتمّ تجاهل الوصيّة.
فموازين القوى هي التي تقرّر؛ وفي حالة اختيار أيّ ابنٍ، ستكون الى جانبه مؤسسات، الانكشارية مثلاً، وتعارضه مؤسسات أخرى، كالبيروقراطية أو العائلة، فيكفي وجود أخٍ «بديل» حتّى يلتفّ حوله المعارضون وتبدأ دورة النّزاع. من هنا، لم يجد حكّام بني عثمان، بعد استتباب أمر دولتهم، من حلٍّ سوى في «إلغاء أسباب الخلاف»، وأصبح قتل وسمل وسجن الإخوة تقليداً سائداً بعد كلّ انتقال عرش.
اعتقال الأثرياء
من النظريات الرائجة أنّ محمّد بن سلمان يرمي، من الاعتقالات، إلى تحصيل مبالغ ضخمةٍ تسدّ عجز ميزانيته وترفد ماليته، وهذا النّمط من «الجباية» أيضاً ليس غريباً على التاريخ. في كتابه عن تاريخ التعذيب في الإسلام، يشرح هادي العلوي أنّ هناك صنفاً كاملاً من التعذيب استخدمه الحكام تاريخياً بهدف الجباية أو مصادرة أموال التجّار (فقد تبيّن أنّ إقناع معارضٍ متعصّب بتغيير عقيدته أسهل من إرغام ثريٍّ على كشف مخبأ أمواله).
ولأنّ الأموال في ذلك الزمن كانت منقولة ومن السهل إخفاؤها، كان للتعذيب والترهيب دورٌ أساسي في جباية أموال المخالفين. «التنّور» مثلاً كان أداة تعذيبٍ صمّمها محمّد الزيّات، وزير الخليفة العباسي الواثق، تحديداً لهذه الغاية. كان «التنّور» عبارةً عن منصّة خشبيّة، دقّت فيها مسامير تبرز من أعلاها، ويوضع في وسطها لوحٌ خشبيٌّ أملس ويُجلس المحكوم عليه، فيضطرّ على الدّوام إلى موازنة نفسه وعدم الاستلقاء أو النّوم والّا انغرزت به المسامير، ويظلّ على هذه الحال حتّى ينهار ويعترف (يضيف العلوي أنّ الزيّات نفسه قد تمّ تعذيبه في تنّوره هذا على يد الواثق).
يقول جرجي زيدان إنّ العبّاسيّين قد دأبوا على مصادرة أموال عمّالهم ووزرائهم بعد وفاتهم، باعتبار أن ثرواتهم الطائلة لم تكن سوى مال الدولة ولكن، في مراحل الضعف والانحلال وتقلّص موارد الخلافة، أصبح الخلفاء يعمدون الى مصادرة أموال وزرائهم في حياتهم، واعتقال وتعذيب الأثرياء كلّما فرغت الخزينة. ابن الفرات وزير المقتدر (الخليفة المتأخّر والضّعيف) كان مثالاً اسطوريّاً على هذه العمليّة، فقد تولّى الوزارة ثلاث مرّات في حياته، وكان كلّ مرّة يُعزل ويُعذّب وتصادر ثرواته الطائلة، ثم يعود ــــ بفضل الحيلة والمؤامرات والرشوة ــــ إلى تسنّم المنصب مجدّداً (في المرّة الأخيرة قتله المقتدر مع ابنه بعد استخلاص ما أمكن).
أساليب التعذيب «الإسلامية»، بالطبع، هي مزحة أمام فنون التعذيب في الغرب، وقد كانت عقوبة «الأشغال الشاقة» (peine forte et dure) في الأصل مادة قانونية لإجبار المتهمين على الاعتراف بالذنب أو البراءة، حتّى تتمّ محاكمتهم ومصادرة أملاكهم. في بريطانيا مثلاً، كان الملك يستولي على أملاك من يُدان بتهم خطيرة كالخيانة أو الكفر، فكان الكثير من الأثرياء يستنكفون عن الكلام في المحكمة وتقديم حجّتهم، بهدف منع المحاكمة وتثبيت الإدانة عليهم، فلا يخسر أولادهم إرثهم وأملاكهم حتّى ولو أُعدم المتّهم. العقوبة كانت تتلخّص في تعرية المتّهم وربط أطرافه بجدران السّجن في وضعية تمنعه من النوم والرّاحة، وإطعامه قليلاً من الخبز في يومٍ ولكن من دون ماء، ثم يسمح له بالشرب في يومٍ آخر ولكن من دون طعام، حتّى يتنازل ويخضع للمحاكمة؛ ولو صمد ورفض، كان يتمّ وضع أوزانٍ ثقيلةٍ عليه، ومضاعفتها، حتى يعترف أو يموت سحقاً (وقد اختار عددٌ من التجار والنبلاء، فعلاً، هذا الطريق).
ولكنّنا لسنا في القرن العاشر، والأساليب العبّاسيّة لا تنفع في عالم اليوم. أوّلاً، حين يبدأ النظام السعودي باعتقال الأمراء والأثرياء، فهو يؤشّر لكلّ تاجرٍ في البلد بأن يخفي أمواله ويهرّب استثماراته (أو قسماً منها على الأقل) إلى الخارج، وهروب الأموال هذا سيكون مفعوله على الاقتصاد أكبر بكثير من أية مبالغ تحصلها الدولة (تقول الأخبار من الداخل السعودي أن الكثير من التجار والأمراء يحاولون، بكلّ الطّرق، تسييل أملاكهم وإخراجها من المملكة، وبعضهم يبيعها مقابل كدساتٍ من النقدٍ يخبئها أو يدفنها في الأرض، كما كان يفعل العباسيّون مع الذّهب). ثانياً، التقديرات حول المبالغ التي يحتمل مصادرتها ــــ 800 مليار دولار وتريليون دولار ــــ مبالغٌ فيها إلى حدٍّ كبير و، ثالثاً، أكثر أرصدة العرب والأمراء موجودةٌ في الغرب وليس في حساباتٍ سعودية واماراتية، فمن الصّعب حصرها ومصادرتها (على عكس العقارات والشركات المحليّة).
المرحلة القادمة
بصرف النّظر عمّا يجري اليوم في «ريتز ــ كارلتون» والمدى الذي سيأخذه «التطهير» في المملكة، لا يمكن لنا ــــ في لبنان ــــ أن نستمرّ بالانتظار وحبك النّكات وعدم أخذ كلام السعوديين (وكلام الحريري) على محمل الجدّ. اللبنانيّون، حين يمسكون خطاباً أو نكتة، لا يعرفون متى يتوقّفون، وقد أصبح ادّعاء الخوف على مصير سعد الحريري غير مناسبٍ وسمج (الكذب ليس جميلاً، آخر ما يهمّنا ــــ بصراحة ــــ هو المصير الشخصي للحريري، هناك آلاف العمّال والموظفين الذين يعتمدون عليه، وهم أجدر بالقلق، وهناك وطنٌ كامل أصبح مصيره في يد من يستوحي سياساته من سلاطين بني عثمان و«لعبة العروش»). الأساسي اليوم هو ما يقوله المسؤولون السعوديون ويهدّدون به، وهؤلاء ليسوا «مُختطفين» ولا هم يمزحون، وليس مواضيع تشكيل الحكومة أو «عودة الحريري» أو الإشاعات المضحكة عن محاولة لاغتياله (لأنّ سعد الحريري هو الفارس صلاح الدّين، وأوّل ما ستفكّر به المقاومة حين تهدّدها الحرب هو التوقّي من خطره ودهائه).
كلّنا أصبح يعرف ابن سلمان وابن زايد، والارتباط الوثيق للجيل الجديد من حكام الخليج مع أمريكا والصهيونيّة، ايديولوجياً وعمليّاً وعلى كلّ مستوى؛ ومن جنّد العالم معه لضرب أهل اليمن وتجويعهم لن يكون رفيقاً بنا. من هنا، حين يهدّدك أمثال هؤلاء ويتوعّدونك، ويلوّحون بحربٍ إسرائيلية ــــ أمريكية ــــ سعودية ضدّ بلدك، فإنّ الواجب هو أن ننسى الحريري قليلاً، وأن نأخذ كلامهم بجدّيّة، ونحضّر أنفسنا للمواجهة، ولما هو قادم.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/11/10