مخالفات مالية في مدينة طبية
سطام المقرن
من الضروري التوسع في المهام الرقابية، وخاصة عند وجود شكوك تتعلق بالنزاهة المالية والإدارية في أعمال الجهات الحكومية وإحالتها إلى القضاء
نشرت الصحف المحلية خبراً عن كشف الجهات الرقابية تجاوزات مالية ضخمة في مدينة طبية - لاتتبع لوزارة الصحة- ، تضمنت مخالفات في الأنظمة واللوائح وسلم الرواتب والبدلات والمزايا المالية، إضافة إلى التعيين والتعاقد، ومن هذه المخالفات على سبيل المثال: وجود رواتب مرتفعة، وأخطاء حسابية، ووجود تفاوت كبير بين راتب التعيين والراتب الحالي، ورصد تعاقد مع موظفين متقاعدين لبلوغهم السن النظامية أو تقاعد مبكر، وتم التعاقد معهم في نفس يوم التقاعد، وأعطي كامل راتب الوظيفة التي كان يشغلها.
المخالفات والملاحظات السابقة تم تداولها على أنها حالات فساد، الأمر الذي أدّى إلى تساؤل الناس عن عدم محاسبة المسؤولين عن تلك المخالفات؟ وكذلك عن ماهية العقوبات المقررة عليهم؟ والغريب في هذه القضية أن الجهة الرقابية نفسها اكتفت فقط بالتوصية بمعالجة تلك الملاحظات دون المطالبة بمعاقبة المخالفين، أو على الأقل تحديد المسؤولية، والمطالبة بإجراء التحقيق معهم! فإذا كانت التقارير الرقابية تقدم كشفاً لجوانب الانحرافات والقصور، وتقدم توصيات تصب في إطار الإصلاح المالي والإداري، فما هي التوابع على التقارير التي تتقدم بها؟ فبدون المساءلة والعقوبات ستعلم الأجهزة الحكومية أن ملاحظات الرقابة مجرد حبر على ورق، وليس لها تأثير سوى (شوشرة مؤقتة) على الجهاز، ومن ثم العودة إلى تكرار نفس الممارسات والمخالفات دون رادع.
تعاني الأجهزة الرقابية بشكل عام من حيرة حول قضايا المخالفات المالية والإدارية، وتحديد المتسبب في حدوثها، وبالتالي تحديد المسؤولية، ومن ذلك على سبيل المثال: تقادم بعض الأنظمة المالية والمحاسبية، وتعدد الإجراءات وتداخلها، والتي قد تسهم في حدوث الأخطاء، والتي قد تستغل أيضاً في تبرير المخالفات، وتتمثل الإشكالية هنا في طبيعة وأهمية المخالفة التي بالطبع تحتاج إلى معايير لتحديد الأهمية النسبية لهذه المخالفات، والتي بدورها أيضاً تحتاج إلى قياس الأثر المترتب على هذه المخالفة بشكل موضوعي، وهنا تكمن المشكلة، لأن تحديد طبيعة وأهمية المخالفة سوف يخضع للاجتهادات الشخصية في ظل غياب هذه المحددات وهذه المعايير، لذا تكمن المخاطر في مثل هذه القضايا في انتفاء المساءلة القانونية.
لنأخذ قضية المخالفات المكتشفة في المدينة الطبية المعنية كحالة دراسية على الافتراضات السابقة، فالجهة الرقابية لم تذكر في تقريرها أن تلك المخالفات تعتبر شبهات فساد، وإنما مخالفات للنظام الصحي العام في المملكة وقرارات مجلس الوزراء ونظام الخدمة المدنية، فالجهة اعتمدت على لوائح خاصة بها لم يتم اعتمادها من قبل وزارة العمل، بالإضافة إلى ارتفاع الرواتب والبدلات مقارنةً بالرواتب والبدلات المعتمدة في وزارة الصحة ولوائح الخدمة المدنية.
وبناءً على ما سبق، لم يحدد التقرير الرقابي سبب استثناء المدينة الطبية من تلك الأنظمة في الأساس، كما لم يوضح المعايير التي تم الاستناد إليها في تحديد تلك الرواتب والبدلات! ومع ذلك سلط التقرير الضوء على وجود إشكالية في وحدة القانون الإداري عموماً، بالإضافة إلى وجود مخاطر تتمثل في عدم العدالة في صرف الرواتب بين الموظفين، ووجود صلاحيات مطلقة يمكن من خلالها التلاعب بتلك اللوائح، فيكون التوظيف والتعيين وتحديد الراتب والعلاوات والترقيات بناءً على التقديرات الشخصية للمسؤول، فتدخل فيها الواسطة والمحسوبيات، وليس هذا وحسب، بل يمكن الاستفادة من وجود هذا الخلل والحصول على مميزات مالية لموظفين رسميين من منسوبيها ، ولقد تضمن التقرير مؤشرات على ذلك، فقد تم صرف بدل لإداري بقيمة 236 ألف ريال، ولكن دون الخوض في التفاصيل، وتحديد مدى استحقاق تلك الميزات المالية!
ومن الملاحظات الأخرى اللافتة للنظر، والتي تضمنها التقرير الرقابي، وجود تفاوت كبير بين راتب التعيين والراتب الحالي لبعض الموظفين، فإحدى الموظفات كان راتبها عند التعيين 5 آلاف و400 ريال، وحاليا تتقاضى 44 ألفاً و671 ريالاً، والرقابة هنا تستفسر عن أسباب هذا التفاوت، ولم يذكر التقرير وجود مخالفة في هذه الزيادات، وذلك لأنها ربما تكون ناتجة عن تسويات مالية معينة، مثل رواتب متأخرة أو إجازات مضافة، أو ربما فعلاً تمت زيادة الرواتب دون وجود ضوابط محددة مبنية على تقديرات شخصية كما ذكر آنفاً.
وخلاصة القول: التقرير الرقابي سلط الضوء على مشكلة القانون الإداري وغموض الصلاحيات والمسؤوليات، وفي نفس الوقت ينقص التقرير وجود مراجعة لملفات وعقود الموظفين لتتبع شروط التعاقد وتحديد الرواتب والزيادات والعلاوات والترقيات، بالإضافة إلى عدم وجود مراجعة لمسيرات الرواتب لسنوات متتابعة لأغراض المقارنة، كما لم يتم تقييم أنظمة الرقابة الداخلية على صرف الرواتب، ولا توجد مراجعة لمدى استحقاق منسوبي المدينة بعض المزايا المالية والأسانيد النظامية لها، كما أن الأخطاء الحسابية الموجودة في المسيرات لم يتضح من التقرير هل هي متكررة أم لا؟ وهل هي متعمدة أم لا؟ وهذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى صعوبة الحكم على وجود شبهات فساد، أو وجود مخالفات جسيمة تستوجب المحاسبة والتحقيق.
ولهذا من الضروري التوسع في المهام الرقابية، وخاصة عند وجود شكوك تتعلق بالنزاهة المالية والإدارية في أعمال الجهات الحكومية وإحالتها إلى القضاء، كما يجب أن تكون الرقابة شفافة ومعلنة، ويجب أيضاً معرفة رأي الجهة المشمولة بالرقابة، لأن الأمر يتعلق بتصحيح الأوضاع، وتقييم النظم والممارسات.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2017/11/28