لكم أشفق على زوجتي المصون من خطر التمدد الإيراني
إسماعيل القاسمي الحسني
حرمي أيها السادة الأفاضل مثلها مثل كل المولعين بمتابعة المسلسلات، وخاصة منها ذات الطابع الدرامي، بالنسبة لي هناك جانب إيجابي يتمثل في اقتطاع ساعة أو ساعتين، وقت ثمين لما يمثله من هدنة مشاغبة الزوجة، واختلاقها لبعض المشاكل الهامشية؛ لكن هناك جانب أهم، يحرك بداخلي أعلى نوازع الشفقة عليها، وأعترف لكم أنني كثيرا ما أدخل معها في صدام لفظي، غالبا ما ينتهي بجفائها.
أعمل على تجنب التوقيت المقدس للمسلسلات، لكن أحيانا أقع في المحظور، وهنا بدل أن أتابع أحداث الحلقة بصمت وخشوع مثل غيري، أغرق في التركيز على تفاعل زوجتي المحترمة مع مشاهد المسلسل، ولا يخفى عليكم بما أنه “درامي”، فبالضرورة يكون التفاعل عبارة عن عبوس الوجه، وتقطيب الحاجبين، ثم تتطور الحال إلى احتقان الدم في الوجنتين، ثم ما يلبث الأمر حتى يتدهور إلى اغروراق العينين، وانهمار الدمع على الخدين؛ هنا يأتي تدخلي غير الموفق ولا المرحب به دوما، حين أحاول لفت انتباه حرمي المصون، إلى أن الأمر ليس أكثر من مشهد تمثيلي، وأن الشخصيات التي تراها مجرد ممثلين يتقاضون أجورا خيالية، مقابل قدرتهم على استدرار دموعها وحقن مشاعرها، وأنهم غالبا ما عند انتهاء تصوير المقطع الدرامي، ينفجرون ضحكا ويتقاسمون فيما بينهم الحلوى وغيرها مما لذ وطاب. ولكم أن تتخيلوا عاصفة الغضب التي تجتاح بهو المنزل، ولكم أن تتخيلوا تبعات محاولة إعادة المتلقي إلى الواقع. المشكلة ليست هنا فقط، وإنما في مفارقة غريبة يتعذر علي تفسيرها، وهي أن لدى زوجتي في واقعها مشاهد أكثر درامية ومأساوية مما تتفاعل معه إثر المسلسلات، ولا أجد منها في تفاعلها مع واقعها، ما أعاينه في تفاعلها مع الصور المُصنّعة والوهمية؛ هل هو انفصام في الشخصية مثلا؟ لا أدري، لعل من بين السادة القراء متخصص في علم النفس، من يتفضل علينا بتفسير هذا السلوك، الذي لا يعد استثناء، بل ظاهرة لدى الغالب الأعم من المدمنين على الأفلام والمسلسلات الدرامية.
مقالات لكُتّاب ومفكرين عربا لهم مكانتهم، متسلسلة لا تكاد تنقطع من مشاهد التحذير من خطر التمدد الإيراني في عالمنا العربي، وتصوير ذلك على أنه مأساة لا محالة تستدعي من المتلقي التفاعل معها بذات الحال التي سبق ذكرها، من شد أعصاب واحتقان دماء وبكاء على مستقبل حالك السواد وغيره؛ وحين نحاول التدخل لقطع التركيز على مشهد أقرب للتمثيل منه إلى سواه، ونسعى لإعادة المتلقي إلى واقعه، وما فيه من مشاهد حيّة أكثر مأساوية مما يسوق له، تأتي كذلكم عاصفة الاتهامات بل والاستخفاف.
هذا المسلسل السخيف، الذي يصور “إيران” رجلا قويا لكنه شرير بل شيطان، والأمة العربية “امرأة” عفيفة طاهرة لكنها مستضعفة، يركز على هاتين الشخصين فقط، وعلى هذا العرض فحسب؛ وهنا من حقنا أن نتساءل: هل الأمة العربية مستباحة حرمتها من قبل هذا الشيطان فقط؟ أهذا هو المشهد المأساوي الوحيد الذي يحصر فيه وعليه تفاعلنا نحن أبناء هذه الأمة؟
هناك شخصية “بطلة” وفاعلة ومؤثرة في واقع الأمة، لكنها تُغيّبُ عن قصد من كل مشاهد مسلسلات هؤلاء الكُتّاب المفكّرين، كانت إلى عهد قريب تسمى “العدو الإسرائيلي”، أكثر من ذلك حين تريد هذه الشخصية إثبات وجودها بعملياتها الإجرامية، تحذف المشاهد وتقتطع بفعل الرقيب، وهذا الرقيب نفسه، هومن يوعز لكتاب سيناريو الأمة العربية، بضرورة التركيز على شرّ الشخصية الإيرانية حصرا.
لكن هناك “شخصيات” أخرى أخطر من “الشيطان الإيراني” المتوهم صفة وتمددا، ولطبيعتها الخطيرة مثل شخصية “العدو الإسرائيلي” مُغيبة هي كذلك عن قصد، مع أن تمددها واقع ملموس، مثل شخصية “الجهل”، فهناك شعوب عربية بلغت نسبة الأمية فيها 70% مثلا، وهي نسبة تتمدد بالفعل، وهناك شخصية “الظلم الاجتماعي” وهي من أخطر الشخصيات المؤثرة بعمق في أحداث المسلسل، وهناك شخصية “تبديد ثروات الأمة واستشراء الفساد”.
لن أتحدث عن قمة كراوفورد عام 2002، ولا عن توني بلير ولا عما كتبه من قبل برنارد لويس، ولا ما تسرب عن جيفري فيلتمن؛ ولا عن مئات المراجع الرسمية ومرجعيات وصُنّاع السياسة الدولية؛ وإنما أبقى في سياق المقال لأسأل هؤلاء المفكرين والكتاب: هل تريدوننا أن نصدق بأن “إيران” هي المسؤولة عن جهلنا شبيه الثقب الأسود؟ ومسؤولة عن الظلم الاجتماعي وفساد طبقة حكامنا وإهدار ثرواتنا؟ هل تريدوننا أن نصدق بأنها هي من دكّت العدو الإسرائيلي في أرضنا وتدا مس نخاع العظم؟ وهل إيران هي من فرضت علينا إطباق الحصار على غزة هاشم؟ أم هي التي اجتهدت في صياغة المبادرة العربية للسلام، وهي من تفرض بقاءها على الطاولة؟ أهي التي رمت بكل ثقلها لسحب تقرير غولدستن مثلا؟ وها أنا ذا أسلم بأن إيران خربت سوريا وقبلها العراق وبعدهما اليمن، فمن خرب الجزائر في العشرية السوداء؟ ومن خرب ليبيا اليوم؟ ومن يهدد تونس ومن ورائها الجزائر ثانية؟ من مزق السودان؟ ومن وراء دارفور؟ ومن يعصف بنيجيريا؟ ومن يعبث بمالي؟ من يتهدد مصر؟ وأخيرا من يحتل فلسطين؟ ماذا لو نحيتم جانبا هذا “الممثل الكومبارس″ المُقحم من مشاهدكم، كيف هي الصورة الواقعية لعالمنا العربي؟
كتّاب يدعون قادة بلدانهم لشن حرب طائفية على إيران لخطرها “القادم”، ويشجعونهم على إعادة مد الجسور مع العدو الإسرائيلي، مع أن خطره قائم وليس قادم؛ رقصوا لقطع العلاقات مع إيران، وزغردوا لعودة السفراء العرب إلى إسرائيل، فهل بعد هذا القاع من السفه قاع آخر؟
ختاما وبصراحة، لكم أشفق على من يتفاعل مع مسلسلات هؤلاء الكتاب والمفكرين، أكثر بكثير من شفقتي على حرمي المصون، مع علمي السابق بأن إعصار الغضب لن يخطئني.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2016/01/07