تعدد التحالفات يكشف غياب المشروع الجامع للأمة
د. سعيد الشهابي
إنه لأمر منطقي أن تكون ذكرى مولد رسول الإسلام، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، محطة سنوية لتمتين عرى التواصل بين المسلمين، ومساعدتهم لتعميق الشعور بالهوية والانتماء، ليس للإسلام فحسب، بل للإنسانية كإطار جامع لسكان هذا الكوكب. وعندما يطرح مشروع «الوحدة الإسلامية» مؤسسا على تعميق الشعور بالارتباط بمحمد، فإن ذلك يجب أن يكون منطلقا لمد جسور التواصل مع البشر. فليس هناك مبرر للشعور بالاستعلاء على الآخرين أو الشعور بالنجاة المطلقة. فمقولة «الفرقة الناجية» لا تمنح أحدا صكا مفتوحا لادعاء النجاة، لأن الله وضع معايير لذلك وأهمها «إن أكرمكم عند الله أتقاكم». وللتقوى معان عديدة ليس هنا المجال للخوض فيها. المسألة المحورية التي يجدر التطرق لها هنا تتمحور حول التحالفات التي تطرح لتأكيد تجليات مفاهيم «الوحدة» و»التعاون» و»التضامن» و»الأخوة». وكلها قيم يشترك فيها البشر جميعا سواء باستمدادها من الأديان أم الايديولوجيات السياسية. فلا مناص عن تلك القيم لمن يسعى لإعمار الأرض وتركيز أسس الأمن والاستقرار.
في الأسبوع الماضي عقد في الرياض مؤتمر بهدف إطلاق مشروع «التعاون الإسلامي ضد الإرهاب». حضر هذا المؤتمر ممثلون عن حوالي 40 دولة إسلامية. ويلاحظ أن الكلمات التي تشكل عنوان المؤتمر تنطوي على قيم رفيعة: التعاون، الإسلام، ضد الإرهاب. جاء انعقاد مؤتمر الرياض بشكل مستعجل، بدون تحضيرات مناسبة أو استشارات بين الدول المدعوة. وكان واضحا لدى هذه الدول أن المؤتمر مشروع سعودي يسعى لإعادة تموضع المملكة في مرحلة ما بعد تنظيم «الدولة» (داعش) المتزامنة مع تغيرات إقليمية ودولية ذات أهمية قصوى. وبرغم الإنفاق الهائل على المؤتمر إلا أن نتائجه كانت متواضعة، وربما ينسجم ذلك مع ما أراده الداعون إليه. فبرغم نبل الهدف إلا أن إدراك الحاضرين وجود أبعاد سياسية مرتبطة بالمصالح الخاصة للدولة المضيفة ساهم في ذلك. ومن المؤكد أن حضور البعض كان مراعاة للدبلوماسية والحفاظ على خيوط التواصل معها خصوصا إنها بلد الحرمين الشريفين ولاعب سياسي كبير.
التحالفات السياسية في المنطقة ليست ظاهرة جديدة، بل تمتد بجذورها في العمق التاريخي لها. ولكن ما يهم الآن قراءة طبيعة مشاريع التحالف لاستيضاح الأسباب أو العوامل التي تحول دون قيام وحدة حقيقية بين دول العرب والمسلمين. فمنذ أن تشرذمت دولها بعد سقوط الدولة العثمانية وتقاسم النفوذ بين الدول الاستعمارية طبقا لاتفاقية سايكس ـ بيكو، لم تستطع الأمة التوافق على مشروع وحدوي جامع. مع ذلك استمرت المحاولات لتحقيق شيء من التقارب بين الدول القطرية التي قامت في ظل الاستعمار وأصبحت تقدس حدودها الجغرافية إلى حد العبادة.
المشكلة أن أغلب المشاريع الوحدوية كان استجابة لطلب الدول المستعمرة. وحتى الجامعة العربية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية كانت بدعم من بريطانيا التي كانت، بالتفاهم مع أمريكا، تسعى لمنع توسع النفوذ السوفييتي في الشرق الأوسط. ويمكن اعتبار قيام الكيان الإسرائيلي في فلسطين من أكبر الضربات التي حالت دون قيام الوحدة المأمولة. وفي حقبة الحرب الباردة انقسم العالم العربي على نفسه، فأصبح بعض دوله محكوما بأنظمة يسارية تتعاطف مع الاتحاد السوفييتي، وبعضها محسوب على المعسكر الانجلو ـ أمريكي. الجامعة العربية التي اتخذت من القاهرة مقرا لها وقعت تحت تأثير «الحقبة الثورية» التي امتدت ربع قرن تقريبا (حتى وفاة عبد الناصر في العام 1970). كان بإمكان الجامعة أن تكون إطارا جامعا للدول العربية، ولكن الصراع بين مصر والسعودية بشكل خاص حال دون ذلك. يومها كان للصراع أبعاد أيديولوجية فكان صراعا بين «عروبة ثورية» يمثلها التوجه القومي العروبي الذي تجسد بشخص عبد الناصر، و»إسلام محافظ» رفعت السعودية لواءه، وتحمست لمشروع «منظمة المؤتمر الإسلامي» للاحتماء بها في مقابل الجامعة العربية. وحال ذلك الصراع دون قيام مشروع فاعل يلم شتات الدول العربية التي فرقها سقوط الدولة العثمانية وتعملق الاستعمار. في تلك الحقبة كان هناك محور مواز يضم دولا إسلامية كبرى، تأسس بدعم بريطاني أيضا وضم كلا من باكستان وإيران وتركيا والعراق. ذلك الحلف الذي أطلق عليه «منظمة المعاهدة المركزية»، انتهى رسميا في 1979 بانسحاب إيران الثورة منه.
أنظمة الحكم العربية التي كانت من مخلفات الحقبة الاستعمارية كانت تدرك ضعفها، وأن قوتها تكمن في الدخول ضمن تحالفات إقليمية مع بعضها. كما كان واضحا أن الجامعة العربية لم تعد إطارا فاعلا بعد أن أصبح أعضاؤها الكبار يتنافسون عليها بهدف السيطرة والنفوذ. ولذلك تأسست تحالفات مناطقية موازية، فكان هناك مجلس التعاون الخليجي الذي تأسس في العام 1981 بين دول الخليج الست بقيادة السعودية، وذلك للاستعداد لانعكاسات ثورة إيران والحرب العراقية ـ الإيرانية على أمن تلك الدول. وفيما استمر مجلس التعاون فاعلا بشكل نسبي منذ تأسيسه فقد تلاشى تماما بعد فترة قليلة من إنشائه. وكان هناك اتحاد المغرب العربي الذي تأسس في 1989 وضم كلا من المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا على أمل أن يحقق الاتحاد في حال تفعيله الاكتفاء الذاتي لكل هذه الدول في معظم حاجاتها. وعندما لم تنجح التحالفات في تحقيق الأهداف التي يرسمها مؤسسوها طرحت الجبهات بديلا للتحالفات. فبعد أن أعلن الرئيس المصري الأسبق، محمد أنور السادات، أمام مجلس الشعب في تشرين الثاني/نوفمبر 1977 عزمه على زيارة «إسرائيل» تم تشكيل «جبهة الصمود والتصدي» في الشهر نفسه لمواجهة ذلك. وضمت الجبهة كلا من ليبيا، وسوريا، والعراق، والجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. كان ذلك تعبيرا عن رفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي في حقبة كانت الشعوب فيها تتمتع بقدر من الوعي واليقظة. ثم كان هناك «محور الاعتدال العربي» الذي تأسس في 2009 وضم أربع دول عربية تتمتع بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة وتتواصل مع «إسرائيل» وهي مصر والأردن والعربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومعظم دول الخليج والسلطة الفلسطينية. هذا المحور كان يهدف لإحداث توازن مع ما يسمى «محور الممانعة الذي ضم كلا من إيران وسوريا وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي. وقد انهار محور الاعتدال بعد ثورات الربيع العربي وصعود الإسلاميين للسلطة في مصر.
هناك اليوم أسماء لمحاور وتحالفات متعددة في الشرق الأوسط منها ما يسمى «محور المقاومة» الذي قال موقع «ويكيبيديا» إنه «اسم أطلقته على نفسها الدول التي تعارض السياسة الأمريكية في العالم العربي وتؤيد حركات التحرر الوطني العربية». وهذا المحور مؤلف من دول هي سوريا وإيران وحركات مثل حزب الله في لبنان. وتعتبر حركة حماس الفلسطينية في بعض الأحيان جزءا من المحور بسبب معارضتها لإسرائيل والولايات المتحدة. وكتبت الصحيفة الليبية «الزحف الأخضر» عام 2002 في مقال بعنوان «محور الشر أو محور المقاومة»: أن «القاسم المشترك الوحيد بين إيران والعراق وكوريا الشمالية هو مقاومتهم للهيمنة الأمريكية». بعد ذلك استخدم الإيرانيون هذه العبارة على نطاق واسع في خطاباتهم حول مقاومة التدخل الأمريكي في العراق. وقبيل الحرب على اليمن في العام 2015 أعلنت السعودية عما سمته «التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن» ضم عشر دول في بداية الأمر، واستهدف ضرب معارضي حكومة عبد ربه هادي منصور التي فرت إلى السعودية وبقيت هناك حتى الآن. هذا التحالف أظهر أن السعودية قادرة على استقطاب بعض الدول لمشاركتها في مشاريعها العسكرية لإضفاء صفة جماعية على ذلك. هذا التحالف بدأ يتصدع بخروج دولة قطر منه وتردد دول مثل السودان ومصر في المشاركة العسكرية. وقبيل نهاية ذلك العام أعلنت السعودية عن تجمع آخر أطلقت عليه «التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب» بقيادة المملكة العربية السعودية، يهدف إلى «محاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره أيا كان مذهبها وتسميتها» حسب بيان إعلان التحالف. ويضم التحالف العسكري من الناحية النظرية 41 دولة مسلمة، ويملك التحالف غرفة عمليات مشتركة مقرها الرياض.
ما مدى فاعلية التحالفات المذكورة؟ الأمر المؤكد أن تعدد الأحلاف في منطقة واحدة يضعف أي توجه لتحالف مركزي يضم الجميع، ويؤكد وجود انقسامات فكرية أو سياسية أو صراع على النفوذ. بعض هذه التحالفات كالتحالف الرباعي الأخير كان له هدف واضح: استهداف دولة قطر. إن هذا التعدد لا يعكس قوة بل يؤكد حالة ضعف عميقة لدى السعودية التي تسعى لأمور عدة: الاستقواء بالآخرين، توفير شرعية لما تقوم به، ومحاولة توزيع اللوم الناجم عن السلبيات على الأطراف الأخرى المشاركة في التحالف، ومحاولة تهميش التحالفات الأخرى التي لا تستطيع الهيمنة عليها. والملاحظ أيضا أن أغلب هذه التحالفات يضم أطرافا غير فاعلة أبدا، ولها أسبابها الخاصة للانضواء تحت راية ذلك التحالف. وليس سرا القول إن الطمع في المال النفطي من بين تلك العوامل. هذه التحالفات ساهمت بدون شك في إضعاف التحالف المحوري الذي يفترض أن يلغي الحاجة لكل تلك التحالفات. الجامعة العربية تم تهميشها تماما وتحويلها إلى بوق داعم للسياسات السعودية بدون نقاش أو اعتراض، بينما تلاشى دور الجامعة العربية بعد أن تلاشى دور مصر عربيا. فهل هذا ما تبحث عنه الأمة؟ أليس ذلك تشتيتا لقدراتها وأبعادها عن هدفها الأساس في لم الشمل والتصدي لمخططات أعدائها وتركيز الجهود باتجاه تحرير فلسطين؟ الأمر المؤكد أن التحالفات المذكورة تخدم مصالح الدول المنضوية فيها ولا تحمل أجندة عمل قومية أو على مستوى الأمة، الأمر الذي أدى إلى تلاشيها تدريجيا.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/12/04